تتمة
5- التقابلات النسقية للعمليات العقلية:
بعد أن درسنا تقابلات كل عملية عقلية على حدة، سنعمل في هذه الفقرات على استنباط وكشف التقابلات الكائنة والمفترضة بين عملية الفهم - باعتبارها المحور الأساسي لهذا البحث - وباقي العمليات العقلية، أي التطرق إلى مجمل التداخلات التي تحصل بين العمليات العقلية أثناء نشاط معين للفهم.
إن أي عملية فهم - كما أسلفنا - لا بد أن تتدخل في اشتغالها عمليات ذهنية أخرى، فلا فهم بدون انتباه أو تذكر مثلا، وهذا يعني أن العمليات العقيلة متماهية فيما بينها، تشتغل كوحدة متكاملة لإنتاج فعل أو سلوك معين (تذكر، فهم، تفكير..)، فلنفترض مثلا أننا بصدد الوضعية التفهمية الآتية: التمهيد لنص الشعري المعنون ب "الكادح"[12] من خلال الصورة التالية:
ن هذا التمهيد يستهدف تقريب أذهان التلاميذ من موضوع القصيدة، وإعطاءهم صورة حسية عن معنى كلمة "كادح". لكننا في هذا المقام سنحاول التركيز فقط على طريقة تمثل الصورة بمختلف مكوناتها والمعنى الذي سيعطى لها، دون الدخول في علاقتها بالنص.
لابد في المرحلة الأولى من اشتغال الحواس الخارجية (عملية الانتباه وعملية الإحساس)، حيث سيعمل التلميذ على تركيز انتباهه على الموضوع المراد فهمه، وهو في هذه الحالة الصورة (موضوع التمهيد المرفقة بشرح الأستاذ). إن أول تقابل يمكن لمسه في هذه الحالة هو: التقابل بين الانتباه والإحساس، فالتلميذ الذي يركز انتباهه على موضوع التفهيم بشكل قصدي[13]، يقوم ذهنه بناء على هذا التركيز بخلق تقابل بين موضوع الانتباه (نكتفي هنا بالصورة ليتضح الأمر)، والانطباع الحسي الذي يولده لديه هذا الموضوع (الإحساس البصري بشكل الصورة، ومكوناتها، وألونها)، وهذا يعني أن الانتباه - على سبيل المثال - إلى صورة كرة سينتج عنها مقابل حسي يتمثل في تكوين صورة ذهنية للكرة، وليس صورة بطة أو كرسي. أي أن الدماغ يعمل على خلق نسخة ذهنية مطابقة للمعطى الخارجي وليس أثر أو بقايا إحساس[14]. وهنا وجب التفريق بين موضوع الانتباه أو الإحساس والأشياء التي قد يثيرها هذا الموضوع، فقد ينتبه التلميذ مثلا إلى صورة "حافلة" لكن هذا الانتباه قد يولد لديه أحاسيس ومشاعر قد عاشها سابقا، أي أنه تجاوز إدراك صورة الحافلة بكل معطياتها إلى علاقة هذه الصورة بتجاربه الشخصية.
من جهة أخرى، يتقابل إحساس التلميذ - الذي يعني وعيه أو شعوره بوجود الشيء (صورة العامل) من خلال الإثارة القادمة عبر المجسات الحسية[15]، بإدراكه الذي يعني المعنى أو التفسير الذي يعطى لهذه الإثارة/ الصورة[16] بأمثال هذه الصورة في الذاكرة، أي أن التلميذ يبحث في ذاكرته عن أشباه هذه الصورة ثم يقوم بتحليل عناصرها الجزئية (الألوان، الأشكال، الملامح، الدلالات..) ضمن السياق الذي وضعت فيه، وانطلاقا من هذا يعطي معنى معينا للصورة موضوع الفهم. فكيف سيعرف التلميذ أن هذه الصورة تشير إلى "شخص يحمل كيسا"؟ إن لم يكن قد خبر أمثالها سابقا، واختزن في ذاكرته مقابلات عدة لها[17]، وهذا لا ينطبق على المرئيات فقط، فحتى اللغة التي نتواصل بها بشكل عفوي وطبيعي، تفهم وتدرك على نحو تقابلي، فعندما تحاور شخصا معينا من عشيرتك اللغوية، وتفهم كل كلمة ينطق بها بطريقة آلية، فدماغك في هذه العملية يقوم بالبحث في مخزونه "عن كل كلمة تقال ويقارنها مع جميع المرات السابقة التي نطقت فيها الكلمة ثم يقوم بسلسلة عمليات ربط الحواس لضمان فهم سلس[18]".
إن عملية فهم معطى هذا التمهيد تفترض تقابل عمليات الانتباه والإحساس والإدراك والتذكر، وهذا التقابل لا يتم بشكل متوالي، بل بطريقة متداخلة وسريعة، أما بخصوص المعنى الذي ينتجه التلميذ حول معطى التمهيد فقد يتراوح بين الصواب والخطأ وقد يتغير حسب السياق والوضعيات النفسية وغيرها من المعطيات الخارجية.
[1] يحضر هذا المفهوم في بعده النصي والتأويلي في كتاب د.محمد بازي: تقابلات النص وبلاغة الخطاب نحو تأويل تقابلي، الدار العربية ناشرون، لبنان، ط.1، 2010. ويعرفه بقوله: "التقابل النووي: هو التقابل المركزي في النص، بين موضوعين، أو حالتين، أو زمنين، أو قيمتين، أو وضعين"، ص. 175.
[2] رافع النصير الزغلول وعماد عبد الرحيم الزغلول، علم النفس المعرفي، م.م، ص.119.
[3] رافع النصير الزغلول وعماد عبد الرحيم الزغلول،علم النفس المعرفي،م.م، ص..122..
[*] بعض هذه السمات يمكن لمسه في إدراك المفاهيم المجردة مثلا.
[4] تقابلات النص وبلاغة الخطاب نحو تأويل تقابلي، محمد بازي، الدار العربية ناشرون، بيروت/ لبنان، ط.1، 2010. ويعني هذا المفهوم: في بعديه النصي والتأويلي.
التقابلات المتفرعة عن التقابل النووي، والتي تكمله وتوسع مجال معناه. ص،172.
[5] هناك مجموعة من المعايير الأخرى التي يمكن رصد تقابلات عملية التفكير وفقها، ونذكر على سبيل المثال: معيار النوع، معيار التحقق، معيار الملاءمة. وغيرها....
[6] سيكولوجية العقل البشري، كامل محمد محمد عويضة، م.م.م، ص.13.
[7] عبد الرحمان عيسيوي، علم النفس بين النظرية والتطبيق، م.م،ص. ص.180.179
[8] سيكولوجية العقل البشري، كامل محمد محمد عويضة،م.م.م ، ص.13.
[9] محمد قاسم عبد الله، سيكولوجية الذاكرة: قضايا واتجاهات حديثة، م.م، ص.19.
[10] محمد عثمان نجاتي، الإدراك الحسي عند ابن سينا: بحث في علم النفس عند العرب، دار الشروق، القاهرة، ط.1، 1980، ص.186.
[11] سيكولوجية الذاكرة: قضايا واتجاهات حديثة، محمد قاسم عبد الله، م.م، ص.21.20.
[12] مجموعة مؤلفين، المختار في اللغة العربية: السنة الثالثة من التعليم الثانوي الإعدادي، مكتبة المدارس، الدار البيضاء،ط.4، 2009، ص،123. سنركز هنا على المعطيات الإدراكية دون ربطها بموضوع التمهيد
[13] نفترض في هذه الحالة حصول انتباه قصدي أي يرغب المتعلم بملء إرادته أن ينتبه للموضوع المدرس.
[14] سيكولوجيا الذكاء، جان بياجيه، تر: يونالاد عمانوئيل، عويدات للنشر والطباعة، بيروت/ لبنان، 2002، ص.127.
[15] رافع النصير الزغلول وعماد عبد الرحيم الزغلول، علم النفس المعرفي، م.م، ص.112.
[16] رافع النصير الزغلول وعماد عبد الرحيم الزغلول، علم النفس المعرفي، م.م، ص.112.
[17] هذا يعني أن عدم وجود مقابلات ذهنية للصورة موضوع الفهم قد يضيق أو يغيب فهم التلميذ لها.
[18] توني بوزان، العقل واستخدام طاقته القصوى، ترجمة: إلهام الخوري، دار الحصاد، دمشق،ط.1، 1996، ص. ص.45.44.
[*]