ذ.حميد الزيتوني
باحث في الدراسات التقابلية
كلية اللغة/مراكش
تقديم
عرفت السنوات الأخيرة ظهور مجموعة من الدراسات المتعلقة بالتقابل وفق تصورات جديدة، ومن زوايا مختلفة؛ فمن هذه الدراسات من نظر للتقابل من زاوية تناسبية، ومنها من نظر له من زاوية دلالية أسلوبية، ونظرت دراسات أخرى للموضوع من زاوية جمالية، في حين تناولت أخرى الموضوع تناولا تأويليا شاملا. كل هذا تم في إطار من التوفيق بين الدراسات العربية والغربية القديمة والحديثة في موضوع التأويل المبني على التقابل وما يرتبط به من مفاهيم.
بدأ تداول هذا المفهوم أول الأمر داخل حقل البلاغة العربية في صورتها العامة، لينتقل فيما بعد إلى ضلعها الثالث الموسوم بالبديع، فقد عمد البلاغيون - وهم يدرسون التقابل - إلى البحث عن بعض الآيات القرآنية الممثلة للظاهرة واستخرجوا مقابلاتها وطباقاتها وأبرزوا بعدها الجمالي والتحسيني داخل هذه الآيات الكريمة؛ ومن ثم نظروا للمقابلة على أنها محسنات معنوية في الكلام، تزيده جمالا إن وجدت ولا تضر به إن غابت.
وحدث نوع من التحوّل في هذه النظرة الضيقة للتقابل مع بعض كتب علوم القرآن مثل: "البرهان في علوم القرآن" لبدر الدين الزركشي الذي جعل المقابلة علما من علوم القرآن، وبالرغم من اقتصاره على تعريفها وذكر أقسامها سيرا على عادة البلاغيين إلا أنه أظهر وعيا بأهمية المقابلة في فهم النص القرآني خاصة عندما أورد نصا لأبي الفضل يوسف بن محمد النحوي يعتبر فيه «أن القرآن كله وارد عليها بظهور نكته الحكمية العلمية، من الكائنات والزمانيات والوسائط الروحانيات والأوائل الإلهيات؛ حيث اتحدت من حيث تعددت، واتصلت من حيث انفصلت...» ([1])، ثم أشار في موقع آخر من البرهان إلى «أن في تقابل المعاني بابا عظيما يحتاج إلى فضل تأمل»([2]).
أما بالنسبة لكتب التفسير فإننا نجد في بعضها- مما تيسر لنا الوقوف عليه - وعيا بالتقابل حيث يتم الانطلاق منه كأرضية لبناء تفسيرات لبعض الآيات القرآنية، أو يتخذ وسيلة لإثبات التناسب بين بعض المقاطع والسور في القرآن الكريم، كما اعتبر التقابل مدخلا من المداخل التي يمكن اعتمادها لتأكيد انسجام النص القرآني. غير أن تفسير سيد قطب «في ظلال القرآن» يبقى أكثرها تميزا في التعامل مع التقابل، لأنه استطاع أن يتوصل إلى أن بعض السور القرآنية بنيت بناء تقابليا، وعمل في تفسيره على الوقوف على هذه التقابلات وتتبع خيوطها سواء على مستوى السورة القرآنية أو القرآن بأكمله. والملاحظة المسجلة على هذا العمل هو أن سيد قطب يستفيض في تحليل التقابلات في بعض السور القرآنية، ويكتفي بالإشارة إليها في مواقع أخرى. لكن هذا لا ينقص من قيمة هذا العمل التفسيري المتميز، والذي يبدو أنه كان النبراس الذي أنار الطريق للمشتغلين بالتقابل من بعده.
واستمرارا لهذه النظرة الجديدة ظهرت في العصر الحديث مجموعة من الكتابات المتطورة عن التقابل، منها كتاب "البلاغة العربية في ثوبها الجديد (علم البديع)" لبكري شيخ أمين الذي انتقد فيه بشدة الرؤية البلاغية القديمة للتقابل ودعا إلى تجاوزها، مؤكدا« أن الطباق والمقابلة وما يتفرع عنهما ليس أمرا نافلا، ولا زينة بديعية، يلهو بها الأديب، فيورد الكلمة وضدها، والعبارة وأختها أو نقيضها ليجعل كلامه براقا خلابا بديعيا. إنما الطباق أساس من عمارة هذا الكون في ظاهره وباطنه، وهو أكبر مما وصفه المؤلفون...»([3])، وقال في موضع آخر :«إن الذي يعنينا في هذا الموضوع هو كون الطباق أساسا من أسس التفكير والتعبير الإنساني وليس زخرفا من القول، أو زينة يمكن الاستغناء عنها..».([4]) وحاول التمثيل للإمكانات الكبيرة التي يتيحها التحليل بالتقابل من خلال دراسة بعض الآيات القرآنية دراسة تقابلية.
ومن الدراسات التي اهتمت بموضوع التقابل في القرآن الكريم، كتاب "التناسب البياني في القرآن، دراسة في النظم المعنوي والصوتي" لأحمد أبي زيد، فرغم أن التقابل جاء في باب واحد من أبواب الكتاب الستة - باعتبار التقابل صورة من صور التناسب البياني في القرآن حسب المؤلِّف - فإنه تضمن مباحث هامة أشار من خلالها إلى أنماط التقابل الواردة في القرآن الكريم، كما قام بجرد مجموعة من السور القرآنية المبنية على التقابل، وعمل على تحليل بعض مقاطعها، كما تناول بالدراسة والتحليل التقابل في موضوع من مواضيع القرآن وهو التقابل في مشاهد النعيم والعذاب. ورغم تميز هذه الدراسة فإن ما يعوزها هو عدم البحث في العلاقات التي تقيمها التقابلات البانية للسور القرآنية فيما بينها وبين السياقات التي وردت فيها، والاكتفاء باستخراجها وتحليلها وبيان أثرها في المعنى.
ومن الأعمال التي تناولت مفهوم التقابل في القرآن الكريم، كتاب "التقابل والتماثل في القرآن الكريم، دراسة أسلوبية" لفايز عارف القرعان. وهي دراسة مخالفة للدراسات السابقة لأن صاحبها نظر للتقابل من خلال العلاقات البنائية بين أطراف التقابل نفسها من جهة، وبين الأطراف والسياق الذي وردت فيه من جهة أخرى. فجاءت نظرته تكاملية، إذ بدأ من دراسة الأنماط السائدة للتقابل في القرآن إلى دراسة تحركها داخل الموضوعات القرآنية (الإيمان، الكفر، النفاق)، ومن ثم رصد حركة المعنى داخل هذا الإطار، ليصل في النهاية للدور الدلالي الذي أخذته في النص القرآني فجاءت دراسته دراسة بنائية وأسلوبية للقرآن الكريم. ([5])
وجاء كتاب حسين جمعة "التقابل الجمالي في النص القرآني"، ليدرس الجانب الجمالي للتقابل في القرآن الكريم مستندا للنظريات الجمالية القديمة والحديثة، باحثا في ماهية التجربة الجمالية ومفهوم التقابل، وفي أساسيات القراءة الجمالية، وفي أشكال التقابل الجمالي وآلياته، وفي التقابل الجمالي في سورة الضحى كنموذج تطبيقي. وهي دراسة حصرت مفهوم التقابل في علاقته بالنظرية الجمالية، وبالتالي نظرت للمفهوم نظرة جزئية.
ومن الرسائل الجامعية التي اهتمت بموضوع التقابل رسالة ماجستير بعنوان: "أسلوب التقابل في الربع الأخير من القرآن الكريم – دراسة أسلوبية"([6]) – للطالب عماري عز الدين، وهي دراسة قيمة استفاد فيها صاحبها من أهم الدراسات الحديثة حول موضوع التقابل، إلا أنه ظهر بوضوح تأثر الطالب الباحث بمنهج فايز عارف القرعان وأسلوبه في كتابه التقابل والتماثل في القرآن، فقد سلك الطالب الباحث مسلك القرعان نفسه في البحث، إلا أنه اقتصر في دراسته على الربع الأخير من القرآن الكريم، ثم طعم دراسته بالمظاهر الجمالية والتناسبية للتقابل.
وفي السنتين الأخيرتين ظهر عملان مميزان لمحمد بازي ،الأول: "التأويلية العربية، نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات"، وهو عمل ضمن فيه المؤلِّف جهازا نظريا متكاملا حول نظرية للتأويل التقابلي، نظرية تتأسس من جهة على مفهوم التساند، أي تساند البنيات النصية الصغرى مع البنيات السياقية الكبرى في بناء تأويل مناسب لأي نص أو خطاب، ومن جهة أخرى على مفهوم التقابل وهو مفهوم تأويلي وإجرائي وتنظيمي وتنسيقي. وينبني هذا المفهوم، قياسا على مفهوم التساند، على تقابلات نصية صغرى وأخرى سياقية كبرى وموسَّعة. وهذه النظرية التقابلية قادرة على قراءة أي نوع من النصوص والخطابات بخلاف الدراسات السابقة التي حصرت اهتمامها بالنص الديني. وهو ما حاول المؤلِّف تحقيقه في عمله الثاني "تقابلات النص وبلاغة الخطاب: نحو تأويل تقابلي"، فقد سعى إلى تطبيق جهازه النظري على مجموعة من النصوص والخطابات بدءا من النص القرآني وصولا إلى النص المنقبي.
1 - التقابل لدى المحدثين من البلاغيين العرب
يُعتبر عبد العزيز عتيق من بين الكتاب المحدثين الأوائل الذين أعادوا كتابة البلاغة العربية، ولم يختلف ما جاء به كثيرا عما كان عند القدماء، حيث لخص تعاريفهم ومثل بأمثلتهم، وحافظ على النظرة الجمالية باعتبارها الوظيفة الأساس للتقابل، لكنه أضاف له وظائف أخرى، وذلك في قوله:«فلعلنا أدركنا الآن على ضوء دراستنا لكل من المطابقة والمقابلة مدى أثرهما في بلاغة الكلام. فكل منهما يضفي على القول رونقا وبهجة ويقوي الصلة بين الألفاظ والمعاني، ويجلو الأفكار ويوضحها شريطة أن تجري المطابقة أو المقابلة مجرى الطبع»،([7]) فالملاحظ من خلا هذا النص أن الباحث جعل للتقابل أدوارا أخرى إلى جانب الدور الجمالي، وتتمثل هذه الأدوار في توثيق الصلة بين الألفاظ والمعاني، وإبراز الأفكار وتوضيحها في أفضل صورة.
وانتقلت هذه النظرة الجديدة للتقابل إلى بكري شيخ أمين في كتابه «البلاغة العربية في ثوبها الجديد:علم البديع». وقد بدأ بكري كتابه بتعريف المقابلة وذكر أقسامها، لكن أهم سؤال حاول الإجابة عنه في اعتقادنا كان هو: هل الطباق [التقابل] تحسين معنوي؟ وهو الأمر الذي كان سائدا عند البلاغيين القدماء كما رأينا ذلك أعلاه. الأمر الذي رفضه بكري بشدة، وألقى اللوم فيه على القدماء وذلك في قوله:«ويلوح لنا بعد تأمل طويل لهذا اللون أن العلماء - أكرمهم الله ورحمهم - قد تجنوا على الطباق وهضموه حقه، ونظروا إليه نظرة استهانة، كان جديرا بخير منها، وبتقدير أكبر وأجل»([8])، ويُرجع بكري هذه النظرة الضيقة للتقابل لدراسة الشاهد مفصولا عن سابقه ولاحقه، ويدعو لتجاوز هذه النظرة. وقد قام بكري بدراسة التقابل في الشعر العربي فوجد أن التقابل جزء أصيل من تفكير الشاعر وتعبيره ولولاه ما كان قادرا على البوح بما يخالج صدره من أحاسيس ومشاعر« كيف يتحدث عن البعد إن لم يكن يعرف معنى القرب واللقاء؟ وكيف يعبر عن حرقة الدمع إن لم يكن يعرف روعة اللقاء وفرحته وبرده وسلامه؟ وكيف يصف أيامه الحاليَّة وقد تجلَّت سوادا إن لم يقارنها بلياليه الخوالي، وقد كانت تشرق أنوارا؟»([9])
وقد حاول إعطاء نماذج تطبيقية لدراسة بعض الآيات القرآنية دراسة تقابلية([10])، وهي دراسة لم يقف فيها بكري عند حدود استخراج التقابلات الواردة في الآيات بل تجاوز الأمر إلى الوقوف على دور هذه التقابلات في بناء المعاني، وتقريبها في صورة حية ومعبرة، وللوقوف على هذا الأمر نقدم نموذجا لآية قرآنية وهي قوله تعالى: ﴿ تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيْلِ ﴾([11]) التي يقول بكري في تحليلها تقابليا:« سواء كان هذا أو ذاك فإن القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرك الأفلاك، وتلف هذه الكرة المعتمة أمام تلك الكرة المضيئة، وتقلب مواضع الظلمة ومواضع الضياء...شيئا فشيئا يتسرب غبش الليل إلى وضاءة النهار، وشيئا فشيئا يطول النهار وهو يسحب من الليل في مقدم الصيف...وهذه أو تلك حركة لا يدعي الإنسان أنه هو الذي يُمسك بخيوطها الخفية الدقيقة، ولا يدعي عاقل أنها تمضي هكذا مصادفة بلا تدبير»([12]).
إن الشيء الذي يسعى إليه بكري شيخ أمين في هذه الدراسة هو إثبات فاعلية التقابل في بناء النصوص وفي تقوية المعنى وتقريبه وتجاوز تلك النظرة التحسينية الضيقة التي أُلْبِست للتقابل، وفي هذا السياق يقول:«نؤكد أن الطباق والمقابلة وما يتفرع عنهما ليس أمرا نافلا، وليس زينة بديعية، يلهو بها الأديب، فيورد الكلمة وضدها، والعبارة وأختها أو نقيضها ليجعل كلامه برَّاقا خلابا بديعيا. إنما الطباق أساس من عمارة هذا الكون في ظاهره وباطنه، وهو أكبر مما وصفه المؤلفون...لأن الحياة بكل عناصرها هي جزء من هذا اللون، أو هذا اللون جزء من الحياة ذاتها».([13])
ولم يخرج أحمد مطلوب عن الباحثين السابقين في ما ذهبا إليه، حيث اعتبر هو الآخر «أن هذه الفنون [فنون البديع] ليست حلية...وإنما هي ركن مهم في العبارة لا يُستغنى عنها، ولولا ذلك لم يحفل بها القرآن الكريم والحديث الشريف ولم يزدهر بها كلام العرب البليغ»،([14]) ولم يكتف أحمد مطلوب بالحديث عن البديع بصفة عامة، بل تناول المطابقة بالتحديد - في مؤلَّف آخر- وذلك لدورها المحوري في بناء النصوص، يقول:«والمطابقة من مقومات التعبير، لأنها تعتمد على الأضداد، والمتناقضات، ولذلك فهي ليست محسنا، وإنما هي وسيلة من وسائل التعبير»([15]) وقد حاول مطلوب أن يبين أهداف ورود البديع في القرآن الكريم ومن ثم التقابل الذي يهمنا في هذه الدراسة، بالقول:«إن التأمل في كلام الله والوقوف على معانيه السامية وتذوق ألفاظه الموحية ومعانيه المؤثرة يؤكد أن البديع لم يكن حلية أو محسنا عرضيا وإنما هو أسلوب يهدف إلى أمور منها:
الأول: إبراز المعنى بأجلى صورة وأوضحها.
الثاني: جمال التعبير واتساقه البديع.
الثالث: روعة التأثير وفعله في النفوس.» ([16])
لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: كيف حدث هذا التحول في نظرة الباحثين إلى التقابل بين القدماء والمحدثين؟ إن محاولة الإجابة عن هذا السؤال تجعلنا نضع افتراضين اثنين:
الأول: هو أن المحدثين استفادوا من الإشارات التي بثها بعض القدماء في مؤلفاتهم،([17]) والتي تدعو إلى إعادة النظر في مفهوم التقابل وإلى استغلاله في قراءة جديدة للقرآن الكريم، خاصة وأنه بُنِي بناء تقابليا كما أشرنا إلى ذلك في نصوص سابقة. ([18])
الثاني: التأثير الذي خلَّفه تيار البنيوية الحديث على الباحثين الشيء الذي جعل بعضهم «يعيدون النظر في التضاد، فيميلون إلى الاعتماد عليه في التحليل، منطلقين في ذلك من عده جزءا من بنية النص»([19]) معولين في استنطاق لغته، على استخراج عناصرها المتقابلة، ثم تصنيفها وتحليلها في ضوء علاقات التضاد
والاتفاق. ([20]) وتعد دراسة كمال أبو ديب «جدلية الخفاء والتجلي، دراسات بنيوية في الشعر»([21]) من الدراسات التي استفادت من المناهج البنيوية ووظفتها في دراسة الشعر، حيث عمل الباحث على دراسة قصائد في فضاء من التصورات الثنائية التي تنطلق عبر سلسلة من الكلمات المتضادة لتصل إلى تضاد الأصوات والحروف في محاولة لطرح تأويلات مقبولة للقصائد الشعرية.
ويمكن اعتبار هذه الدراسة من الدراسات المرجعية في دراسة التقابل حيث أشارت إلى أهميتها معظم الدراسات الحديثة التي تناولت موضوع التقابل. لكن هذا لا يعني أننا رجحنا الافتراض الثاني على الأول، فقد أوردت معظم الدراسات الحديثة أيضا الإشارات التي نبه بها بعض القدماء إلى قيمة التقابل في دراسة القرآن؛ مما يعني تضافر الافتراضين معا في إحداث التغيير الذي عرفه مفهوم التقابل.
2- التقابل لدى فايز عارف القرعان ومحمد بازي
سأقتصر في هذه الدراسة على تناول دراستين معاصرتين تناولتا مفهوم التقابل تناولا جديدا، والوقوف على هاتين الدراستين نابع من أمرين: جدتهما أولا، واختلافهما عن الدراسات السابقة ثانيا، ويكمن هذا الاختلاف في نظرتهما الشمولية للموضوع، وتناوله من زوايا مختلفة باعتماد آليات واضحة.
2-1 فايز عارف القرعان
تعتبر دراسة «التقابل والتماثل في القرآن الكريم»([22]) دراسة مخالفة للدراسات السابقة - كما سبقت الإشارة إلى ذلك - لأن صاحبها نظر للتقابل من خلال العلاقات البنائية بين أطراف التقابل نفسها من جهة، وبين الأطراف والسياق الذي وردت فيه من جهة أخرى. فجاءت نظرته تكاملية، إذ بدأ من دراسة الأنماط السائدة للتقابل في القرآن إلى دراسة تحركها داخل الموضوعات القرآنية (الإيمان، الكفر،النفاق)، ومن ثم رصد حركة المعنى داخل هذا الإطار، ليصل في النهاية للدور الدلالي الذي أخذته في النص القرآني فجاءت دراسته دراسة بنائية وأسلوبية للقرآن الكريم. ([23])
2-1-1. تعريف التقابل عند القرعان
قبل الحديث عن أقسام التقابل عند القرعان لا بد من إيراد تعريفه للتقابل، الذي حدّه بقوله هو
« وضع لغوي يتركب من عناصر لغوية تقوم في الأصل على المواجهة فيما بينها، سواء مواجهة التقابلات
أو التخالفات أو التماثلات، وقد تكون العناصر اللغوية بسيطة كتقابل الضدين أو المتخالفين أو المتماثلين، وقد تكون مركبة كتقابل الجملة بالجملة أو مجموعة من الجمل بمجموعة أخرى من الجمل»([24])، والذي نلاحظه في تعريف القرعان أنه لم يختلف عن تعريف القدماء، بالإضافة إلى تضمُّنِه أنماط التقابل التي استنتجها الباحث؛ وهي ثلاثة أنماط كبرى، وجعل تحت كل واحد منها مجموعة من الأقسام الصغرى، وهو ما سنراه في النقطة الموالية.
2-1-2 أنماط التقابل عند القرعان([25])
- النمط البسيط: ويتكون هذا النمط من الأقسام التالية:
أ- تقابل التضاد اللفظي: ويتكون بتضاد كلمتين في اللفظ والمعنى، شريطة أن تكونا كذلك قبل دخولهما في التركيب. ويدخل تحت هذا النوع من التقابل ما كان من جهة النفي أو الأمر والنهي. وهو نوعان:
● حقيقي ومثاله قوله تعالى:﴿وَتَحْسِبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ.﴾ ([26]) فاليقظة ضد الرقاد لفظا ومعنى.
●ومجازي مثل قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾([27])، فالتقابل واقع بين (الظلمات) و(النور) في الآية الكريمة، وهو تقابل مجازي لدلالة الظلمات على الكفر ودلالة النور على الإيمان.
ب - تقابل التضاد المعنوي: ويحدث عندما تقابل كلمةٌ كلمةً أخرى من جهة المعنى، سواء كانتا متضادتين في الأصل أو كانتا من أصل واحد. ومن نماذجه قوله تعالى:﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً ماذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ ٱلْمُجْرِمُونَ ﴾([28])، فالتقابل حاصل بين لفظتي (بَيَاتاً) و(نَهَارًا)، وهو تقابل من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، وذلك لأن (بَيَاتاً) ليست مقابلا لفظيا ل (نَهَارًا)، لكنها مرادفة للمقابل الحقيقي ل (نَهَارًا) وهو ليلا.
ج - تقابل التخالف: يتكون عندما تقابل كلمة أخرى من جهة التخالف لا التضاد. ومن أمثلته قوله تعالى: ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَدْنَىٰ دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾([29])، فالتقابل واقع بين (الأدنى) و(الأكبر) وهو تقابل تخالف لا تضاد، لأن ضد (الأدنى) هو (الأعلى) وضد (الأكبر) هو (الأصغر)، ومن ثم كانت العلاقة بين المتقابلين قائمة على التخالف.
د - تقابل التماثل([30]): يتكون عندما يتماثل مفرد مع مفرد كالمبتدأ والخبر من جهة التماثل اللفظي أو المعنوي. ومن نماذج التماثل في اللفظ والمعنى قوله تعالى:﴿ وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾([31])، في هذه الآية الكريمة تقابل التماثل قائم بين (يُؤْمِنُون) و(يُؤْمِنُونَ بِه)ِ وهو واضح من جهة اللفظ، أما من جهة المعنى فـ (يُؤْمِنُون) تعود على الآخرة و(يُؤْمِنُونَ بِه) تعود على الكتاب، والإيمان بالآخرة وبالكتاب من عناصر الإيمان وبذلك كان التماثل أيضا في المعنى. أما الحالة الثانية لتقابل التماثل فهي التماثل في اللفظ دون المعنى، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَقِيلَ ٱلْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾([32]) فالتماثل اللفظي قائم بين (نَنسَاكُمْ) و (نَسِيتُمْ)، أما من حيث المعنى فليس هناك تماثل لاستحالة دلالة (نَنسَاكُمْ) على معنى النسيان الذي يستحيل في حقه تعالى.
- النمط المركب: يتركب هذا النمط من التقابلات التالية:
أ - تقابل التضاد المعنوي: ويتكون هذا النوع من التقابل عندما تقابل كلمة تركيبا أو يقابل تركيب تركيبا من جهة المعنى. ومن أمثلة التقابل بين المفرد والتركيب قوله عز وجل: ﴿وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي ٱلظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾([33])، فالتقابل في الآية الكريمة واقع بين المفرد (يُضْلِلْهُ) والتركيب (يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) وهو تقابل معنوي لأنه كلما كان التقابل بين المفرد والتركيب كان التقابل معنويا لأن التقابل اللفظي ينحصر بين المفردات.
أما الحالة الثانية لهذا النمط من التقابل فهي التقابل بين التراكيب، ومنه قوله تعالى:﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾([34]) فهاهنا التقابل حاصل بين التركيبين (تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ) و(قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ)، فالتركيب الأول يشير إلى الإسلام والتركيب الثاني يشير إلى الكفر، والتقابل بين مرادفي التركيبين تقابل في اللفظ والمعنى، لكن التقابل بين التركيبين تقابل معنوي.
ب - التماثل: ويقع هذا النوع من التقابل عندما يجاور تركيب تركيبا من جهة التماثل في اللفظ والمعنى أو في اللفظ فقط، كجملتي الشرط وجوابه في الجملة الشرطية، أو جملتين مكتملتي الإسناد. ومن أمثلة التماثل في التراكيب لفظا ومعنى قوله عز وجل: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ ﴾([35]) فطرفي التماثل في الآية الكريمة هما جملة الشرط (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) وجوابه (فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ) وهو تماثل قائم في اللفظ والمعنى. أما التماثل الواقع في اللفظ لا في المعنى، فمثاله قوله تعالى: ﴿إِنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾([36]) والتماثل في الآية القرآنية قائم بين التركيبين (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ)
و (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) فتكرار فعل الاستهزاء في التركيبين يبين أن التماثل واقع في اللفظ، لكنه غير واقع في المعنى لتعذر نسبة الاستهزاء إلى الله عز وجل على الحقيقة، لأن المماثلة جاءت لعلاقة المجاورة.
- النمط المعقد: ويحدث هذا النمط عندما تتداخل عدد من التقابلات من النمطين السابقين في تقابل واحد. ويأتي على الصور التالية:
أ - تقابل التضاد اللفظي: ومثاله قوله تعالى:﴿وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ إِنّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ﴾([37]) فالتقابل في الآية الكريمة واقع بين ثلاثة أطراف متقابلة تجتمع على علاقة التضاد اللفظي الحقيقي، فـ (أَحْيَاكُم) تقابل (يُمِيتُكُم) و(يُمِيتُكُم) تقابل (يُحْيِيكُمْ).
ب – تقابل التضاد المعنوي: ومن نماذجه قوله عز وجل: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمّ جَعَلْنَا الشّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ﴾([38]) فالتقابل واقع بين الأطراف (مَدّ الظِّلَّ) و(سَاكِنًا) و(قَبَضْنَاهُ)، فمد الظل حركة معكوسة للسكون من جهة والقبض مقابل للمد من جهة أخرى، والتقابل الحاصل هنا معنوي لطبيعة العلاقة بين الأطراف الثلاثة.
ج – التقابل اللفظي والمعنوي: ومن أمثلته قوله عز وجل: ﴿ ذَٰلِكَ بِأَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾([39]) فالتقابل الأول وهو لفظي قائم بين (الحق) و(الباطل)، والتقابل الثاني حاصل بين(الباطل) و(العلي الكبير) وهو تقابل معنوي لاحتمال دلالة (العلي الكبير) على الحق.
د- التقابل اللفظي والتخالفي: ومنه قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾([40]) فالتقابل الأول واقع بين الطرفين (شاهدا) و(مبشرا) وهو تقابل تخالفي لبعد طرفيه عن علاقة التضاد. والتقابل الثاني واقع بين (مبشرا) و(نذيرا) وهو تقابل تضاد لفظي لعلاقة التضاد التي تجمع بين طرفيه.
ه- - التماثل والتضاد اللفظي: ومن نماذجه قوله عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾([41]) التقابل الأول في الآية القرآنية حاصل بين الطرفين (أحياها) و(لمحيي) وهو تقابل تماثل كما يظهر، والتقابل الثاني قائم بين الطرفين (لمحيي) و(الموتى) وهو تقابل تضاد لفظي لتضاد الحياة مع الموت.
و- التقابل اللفظي والتوافق: ومن أمثلته قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾([42]) إن التقابل الأول في الآية واقع بين الطرفين (يؤمنون) و(يكفر) وهو تقابل تضاد لفظي لتضاد الإيمان مع الكفر، والتقابل الثاني واقع بين الطرفين (يكفر) و(الخاسرون) وهو تقابل توافق لأن الكفر يوافق الخسران في المعنى .
ز- التقابل المعنوي والتوافق: ومنه قوله تعالى: ﴿ثُمّ إِنّ رَبّكَ لِلّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ﴾([43])، فالتقابل الأول في هذه الآية واقع بين الطرفين (عملوا السوء) و(ثم تابوا) وهو تقابل معنوي لتقابل دلالة التركيبين في المعنى، حيث يمكننا القول إن(عملوا السوء) تدل على المفسدين و(ثم تابوا) تدل على المصلحين ليصبح مرادفا التركيبين متقابلين تقابلا لفظيا لكن التركيبين يحافظان على التقابل المعنوي بينهما. أما التقابل الثاني الواقع في هذه الآية فهو بين الطرفين (ثم تابوا) و(أصلحوا) وهو تقابل التوافق باعتبار أن التوبة توافق الإصلاح وتندرج فيه.
ح- التقابل المعنوي والتخالف: ومن نماذجه قوله تعالى: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا ﴾([44]) فالتقابل الأول في الآية واقع بين الطرفين (وُلِدَ) و(يَمُوتُ) وهو تقابل تضاد لفظي وليس تقابل تخالف كما ذهب إلى ذلك الباحث ([45])، فالعلاقة بين الميلاد والموت علاقة تضاد وليست علاقة تخالف. والتقابل الثاني واقع بين الطرفين (يَمُوتُ) و(يُبْعَثُ حَيّا) وهو تقابل معنوي لدلالة الطرف الثاني على الحياة. ومن ثم نصبح أمام التقابل اللفظي المعنوي الذي أُشير إليه سابقا. وبالتالي عدم قيام هذا النوع من التقابل داخل النمط المعقد من أنماط التقابل.
الخلاصة التي يمكن أن نصل إليها بعد هذا التحليل، هي أن أنماط التقابل التي جاء بها القرعان لا تختلف كثيرا عما جاء به القدماء، باستثناء إهماله لتقابل السلب والإيجاب بجميع أقسامه. ويبدو هذا التشابه طبيعيا خاصة وأن الباحث صرح بأنه سيبني مفهومه للتقابل على مفهومي ضياء الدين بن الأثير وحمزة بن يحي العلوي([46]). إلا أن هذا لا يعني أن القرعان قدم الأقسام التي جاء بها القدماء كما هي دون أي تغيير، فقد قدم نفس الأقسام ولكن في شكل جديد، حيث أعاد ترتيبها وجعلها ثلاثة مستويات: البسيط والمركب والمعقد، وبذلك يكون قد أعطى آلية لفهم التقابلات عندما تتعدد وتتداخل في نص من النصوص.
2-2 محمد بازي
يعتبر كتاب "التأويلية العربية، نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات" ([47])، دراسة جادة ضمنها المؤلف جهازا نظريا متكاملا حول نظرية للتأويل التقابلي، نظرية تتأسس من جهة على مفهوم التساند، أي تساند البنيات النصية الصغرى مع البنيات السياقية الكبرى في بناء تأويل مناسب لأي نص أو خطاب، ومن جهة أخرى على مفهوم التقابل. وينبني هذا المفهوم، قياسا على مفهوم التساند، على تقابلات نصية صغرى وأخرى سياقية كبرى وموسَّعة. وقد سعى المؤلِّف إلى تطبيق ما جاء به في هذه الدراسة على نصوص متنوعة في عمله الثاني "تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي" ([48]).
2-2-1. تعريف بازي للتقابل
عرف بازي التقابل بكونه « محاذاة المعاني بعضها ببعض، والتقريب بينها في الحيز الذهني والتأويلي لإحداث تجاوب ما، أو تفاعل معرفي وإضاءة بعضها للآخر. وهو خاصية تواصلية وإدراكية، فالأمور تُفهم وتُتمثَّل بشكل أفضل بعرضها على مقابلاتها، بل إن الحياة مبنية على أساس تقابلي: تخالفي أو تماثلي أو توافقي أو نقيضي»([49])، من خلال ملاحظة هذا التعريف نجد أنه لا يختلف كثيرا في مضمونه عن تعريف القدماء، لكن الجديد فيه هو ربطه التقابل بالتأويل حيث جعل منه مرتكزا للقراءة التأويلية، وأصبح لا يذكر التقابل إلا مقرونا بالتأويل، مما أنتج مفهوما جديدا يجمع بينهما سماه الباحث بالتأويل التقابلي، ويحده بالقول:«هو إجراء في الفهم، يقوم ذهنيا على التقريب التقابلي بين العناصر والمستويات، في المعطى موضوع التأويل بأي شكل ممكن. إنه إحداث لتواجه بين بنيتين، أو موقفين، أو وضعين أو عنصرين، أو غير ذلك. وهو ما ينتج علاقات متباينة لها معانٍ».([50])
2-2-2 أنماط التقابل عند بازي
سنحاول ونحن نستعرض هذه الأنماط، أن نقارنها بما جاء به القدماء، وذلك بهدف معرفة الاجتهادات التي جاء بها الباحث. وسنسعى إلى محاولة البحث عن الأصول النظرية لهذه الاجتهادات بغية فهمها بشكل أعمق. وقد قسم محمد بازي التقابلات إلى نمطين كبيرين:
I – التقابلات الصغرى: ويقصد بها الباحث التقابلات الجزئية الموجودة داخل النص، وتتكون من مستويين اثنين: مستوى بسيط وآخر مركب، ويسميهما الباحث على الترتيب تقابل الآحاد وتقابل النسق.وهي على الشكل التالي:
1 -التقابل النقيضي(الطباق):ويمثل له بقول أبي تمام:
لَيْسَ الصَّدِيقُ بِمَنْ يُعِيرُكَ ظَاهِرًا مُتَبَسِّمًا عَنْ بَاطِنٍ مُتجَهِّمٍ ([51])
في هذا البيت الشعري نجد تقابلين اثنين: الأول بين الطرفين (ظاهر) و(باطن)، والثاني بين (مُتَبَسِّم) و(مُتجهِّم)، ويمكن أن نسمي التقابلين معا تقابل التضاد اللفظي وذلك لوجود علاقة التضاد في اللفظ والمعنى بين أطراف التقابل.
2- التقابل النظيري: ومثاله قوله تعالى:﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾([52])، وقد ذكر الزركشي هذا النوع من التقابل بنفس الاسم ومثل له بالآية نفسها([53])، وسماه القرعان تقابل التماثل لتماثل معنيي المتقابلين (السنة) و(النوم) ودلالتهما معا على الرقاد.([54])
3- تقابل الإثبات والنفي: ومن أمثلته قول المتنبي:
وَلاَ تَحْسَبَنَّ المَجْدَ زِقًّا وقَيْنَةً فَمَا المَجْدُ إِلاَّ السَّيْفُ والفَتْكَةُ البِكْرُ ([55])
فقد نفى الشاعر أن يكون المجد خمرا أو مغنية، وأثبت أن المجد يكون بالسيف والبطش الذي لم يُسبق إليه. وهذا القسم من التقابل ذكره القدماء بنفس الاسم وأدرجوه في تقابل السلب والإيجاب.
4- تقابل التشابه: «وهو أن يرد في الكلام مشبه ويقابله في الفهم مشبه به بشكل صريح...أو بشكل ضمني»([56]) ومثل له بقول أبي تمام:
نَظَمَ البِلاَدَ فَأصْبَحَتْ وكَأَنَّهَا عِقْدٌ كأَنَّ العَدْلَ فِيهِ جَوْهَرُ ([57])
فقد قابل من جهة بين البلاد والعقد ومن جهة أخرى بين العدل والجوهر، وهو تقابل بين المشبه والمشبه به في التقابلين المذكورين وهو تقابل يتجلى أكثر على مستوى الصور التي يرسمها التشبيه .وهذا النوع من التقابل لا نجده عند القدماء.
5- تقابل الفاعل والمفعول:ومثاله في قول المتنبي:
يُدَفِّنُ بَعْضُنَا بَعْضًا وَتَمْشِي أَوَاخِرُنَا عَلَى هَامِ الأَوَالِي ([58])
فالتقابل حاصل في البيت بين (بَعْضُنَا) و (بَعْضًا) فالأول فاعل(دافن) والثاني مفعول به (مدفون)، وهذا التقابل من إضافات الباحث بازي ولا نجده عند القدماء.
6 -تقابل حال الذوات: ونجده في قول البحتري واصفا الذئب:
كِلانا بِها ذِئْب يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِصَاحِبِه والجَدُّ يُتْعِسُهُ الجَدُّ ([59])
عرض الشاعر حالته وحالة الذئب وهما يشعران بالجوع، فجاءت حالتهما متقابلتين وهو تقابل جديد جاء به بازي.
7- تقابل التشارك اللفظي: ومثاله ما قاله أبو تمام:
السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ في حَدِّهِ الحَدُّ بَيْنَ الجِدِّ واللَّعِبِ ([60])
اعتبر الباحث محمد بازي ظاهرة الاشتراك اللفظي نوعا من التقابل حيث جعل من اللفظين المشتركين طرفي التقابل، كما هو الحال هنا بين (حَدِّهِ) و(الحَدُّ) فالأول مقطع السيف والثاني الفاصل، فتقابلت الكلمتان لاشتراكهما في اللفظ واختلافهما في المعنى. هذا وإن كانت ظاهرة الاشتراك اللفظي ظاهرة معروفة في علم الدلالة فإن اعتبارها نوعا من التقابل شيء جديد.
8- تقابل التصدير: أي رد العجز على الصدر، ومن نماذجه قول أبي تمام:
يَكادُ نَدَاهُ يَتْرُكُهُ عَدِيمًا إِذَا هَطَلَتْ يَدَاهُ عَلَى عَدِيمِ ([61])
التقابل في البيت الشعري واقع بين (عَدِيمًا) و(عَدِيمِ) وذلك لدلالة الأولى على الممدوح نتيجة إفراطه في العطاء ودلالة الثانية على المعدم الذي يتلقى العطاء، وقد ذكر القدماء رد الأعجاز على الصدور باعتباره بابا من أبواب البديع وليس نوعا من أنواع التقابل، وأورد ابن أبي الأصبع المصري نوعا من أنواع التقابل سماه: طباق الترديد « وتعريفه أن يردّ آخر الكلام المطابق على أوله، فإن لم يكن مطابقا فهو رد الأعجاز على الصدور»([62])، ومن هذا النص نستنتج العلاقة القائمة بين تقابل الترديد والتصدير، لأن تحقيق التقابل مشروط بوجود علاقة التضاد اللفظي بين أول الكلام وآخره.وهذا الأمر إن كان لا يتحقق في البيت الشعري على مستوى اللفظ فإنه يتحقق على مستوى المعنى.
9- تقابل الصيغ والأوزان: «وهو تشاكل بين الكلمات يولده اشتراكها في وزن أو صيغة
بعينها» ([63]) ومثاله قول أبي تمام:
تَدْبِيرُ مُعْتَصِمٍ بِاللهِ مُنْتَقِمٍ للهِ مُرْتَقِبٍ فِي اللهِ مُرْتَغِبِ ([64])
والتقابل في البيت الشعري حاصل بين الكلمات التي جاءت على صيغة " مُفْتَعِلٌ": (معتصم) و(منتقم) و(مرتقب) و(مرتغب).واستعمل الباحث في تعريف هذا النوع من التقابل مفهوم التشاكل وهو مفهوم قريب من التماثل كما رأينا عند القدماء. إلا أنه تماثل على مستوى الصيغة وليس على مستوى الألفاظ أو التراكيب. ويبقى هذا النوع أيضا من إضافات الباحث لأقسام التقابل.
10- تقابل التناسب:« وهو أن يجمع الكلام أمرا وما يناسبه من نوعه، أو ما يلائمه من وجه من الوجوه»([65])، ومثاله قوله تعالى:﴿ لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾([66]) فالتناسب في الآية الكريمة قائم من جهة بين اللطف وما لا يدرك بالبصر، ومن جهة أخرى قائم بين الخبرة والقادر على الإدراك، ويعبر فايز القرعان عن هذا النوع من التقابل بالتوافق بين المعاني وقد استعمله بصفة خاصة في حديثه عن النمط المركب من أنماط التقابل. ويعتبر أحمد أبو زيد مِنْ بين مَنْ أشار إلى علاقة التقابل بالتناسب في القرآن الكريم وذلك في كتابه: «التناسب البياني في القرآن» حيث خصص بابا كاملا للموضوع سماه «تناسب المعاني المتقابلة» ([67]).
11 -التقابل المتعدد: ومثاله قول الشاعر:
ثَغْرٌ وَخَدٌّ وَنَهْدٌ وَاخْتِضَابُ يَدٍ كَالطَّلْعِ وَالوَرْدِ وَالرُّمَّانِ وَالبَلَحِ ([68])
فقد قابل الشاعر عناصر الشطر الأول بمشابهاتها في الشطر الثاني على الترتيب (الثغر/ الطلع) و(الخد/ الورد) و(النهد/الرمان) و(اختضاب اليد /البلح)، وتقابل هذه العناصر قائم على التشبيه لهذا يمكن أن نسمي هذا النوع من التقابل تقابل التتشابه المتعدد لكونه يتكون من أربعة تشبيهات، وجدير بالذكر أن النموذج الذي مثل به الباحث لتقابل التشابه تضمن تشبيهين اثنين. فإن كان التقابل ناتجا عن علاقة المشابهة سمي تقابل التشابه كسابقه، وإن كان ناتجا عن علاقة التعدد فهو قسم جديد من أقسام التقابل.
12- تقابل التفارق:« وهو أن يرد في الكلام أمران من نوع واحد، ثم يظهر التقابل ما بينهما من تفاوت وتفارق، تبعا لقصد المنتج» ([69]) ومثاله قول الشاعر:
مَنْ قاسَ جَدْواكَ بالغَمَامِ فَمَا أَنْصَفَ فِي الحُكْمِ بَيْنَ شَكْلَيْنِ
أَنْتَ إِذَا جُدْتَ ضَاحِكٌ أَبَدًا وَهُوَ إِذَا جَادَ دَامِعُ العَيْنَيْنِ([70])
والتقابل في البيت الشعري حاصل في الحالة التي يكون عليها كل من الغمام والممدوح لحظة العطاء، فالممدوح ضاحك والغمام دامع العينين، وهذا هو الفرق بينهما لهذا سماه الباحث تقابل التفارق. لكن إذا عدنا إلى البيت الشعري وجدناه مركبا من تقابلين اثنين: الأول تقابل التماثل وحاصل في تماثل فعلي الجود، والثاني تقابل التضاد المعنوي وحاصل بين المفرد (ضاحك) والتركيب (دامع العينين) الدال على البكاء، وهو معنى مجازي ومن ثم فنحن أمام تقابل التكافؤ عند ابن أبي الأصبع المصري([71])، مما يعني أننا أمام تقابل من النمط المعقد كما سماه القرعان يجمع بين تقابلين من النمط البسيط تقابل التماثل وتقابل التضاد المعنوي.
13- تقابل الخطاب(الالتفات): وهو«أن يتقابل في الكلام خطاب الغائب بخطاب المخاطب، أو تقابل المتكلم والمخاطب، أو المتكلم والغائب»([72])، ومثاله قول المتنبي:
رَمَيْتَهُمْ بِبَحْرٍ مِنْ حَدِيدٍ لَهُ فِي البَرِّ خَلْفَهُمْ عُبَابَ
فمسَّاهُم وبُسْطُهُمْ حرِيرٌ وصبَّحَهُمْ وَبُسْطُهُمْ تُرَابُ
وَمَنْ فِي كَفِّهِ مِنْهُمْ قَنَاةٌ كمَنْ فِي كَفِّهِ مِنْهُمْ خِضَابُ ([73])
فالتقابل حاصل بين الضمائر([74]) (التاء) و(هم) و(الهاء) وضمير الغائب (هو) المستتر في (مساهم) والاسم الموصول(من)، باعتبارها تمثل ذوات متباينة ومتقابلة على مستوى الحضور والغياب، وعلى مستوى المرجع الذي يعود عليه كل ضمير.
14- التقابل الزمني: ويعني إدراك التقابلات الزمنية في بنية الخطاب، والتي تتشكل من الأزمنة الثلاثة في تقابلاتها المختلفة. ([75]) ومن أمثلته قول المتنبي:
لِعَيْنَيْكِ ما يَلْقَى الفُؤَادُ وما لَقِي ولِلْحُبِّ ما لَمْ يَبْقَ مِنِّي وَمَا بَقِي ([76])
فالتقابل في البيت الشعري قائم على مستوى البناء الزمني بين الحاضر (ما يلقى)، والماضي (ما لقي)، وحركة الزمن المتجهة نحو المستقبل (للحب ما لم يبق وما بقي). وهذا التقابل من إضافات بازي لأقسام التقابل.
15- التقابل الضمني: ومضمونه أن القراءة التقابلية تقوم على العناصر الغائبة والمبنية تأويليا كما تقوم على العناصر الحاضرة ([77])، ويمكن التمثيل لهذا النوع من التقابل بما ذكره بازي في حديثه عن صفة الرحمة في البسملة، قال: « فذكر صفة الرحمة في البسملة مما يفرح النفس ويشوقها، وفي ذلك ترغيب في الطاعات، خلافا للغضب الذي يوحش النفوس ويخوفها وينفرها» ([78])، وهذا النوع من التقابل سبق إلى ذكره أحمد أبو زيد وعرفه بقوله: « وهو أن يذكر أحد المتقابلين، ويفهم المتقابل الآخر بطريقة ضمنية، والمعيار في ذلك هو سياق الكلام» ([79]).
16- تقابل التراتب: ويكون هذا النوع من التقابل عندما تأخذ بعض العناصر ترتيبا معينا في الكلام، فتتقابل فيما بينها([80])، ومثاله قوله تعالى:﴿ ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ ([81]) فالآية الكريمة تقدم لنا ثلاث مراتب، الدنيا: (ظالم لنفسه) والوسطى: (مقتصد) والعليا: (سابق بالخيرات). وهي متباينة ومتقابلة فيما بينها. وهذا النوع من التقابل جديد أيضا.
17- تقابل الخبر والإنشاء: يكون هذا النوع من التقابل عند تقابل الأسلوب الخبري مع الأسلوب الإنشائي في نص معين، ومثاله قول عمر أبي ريشة:
أَصْبَحَ السَّفْحُ مَلْعَبًا للنُّسُورِ فاغْضَبِي يا ذُرَى الجِبَالِ وثُورِي ([82])
والتقابل في البيت الشعري حاصل بين الأسلوب الخبري (أَصْبَحَ السَّفْحُ مَلْعَبًا للنُّسُورِ) الدال على الوصف والتقرير، وبين الأسلوب الإنشائي (فاغْضَبِي يا ذُرَى الجِبَالِ وثُورِي) الجامع بين الأمر والنداء. وهو تقابل جديد لا نجده عند القدماء.
18- تقابل الأمكنة: يحدث هذا التقابل عند ورود مجموعة من الفضاءات في نص ما، وباعتبار أنها مختلفة ومتنوعة ينظر إليها على أنها متقابلة لفهم أفضل للتجربة المعبر عنها في علاقتها بهذه الأمكنة. ومن ذلك قول الشاعر مالك بن الريب التميمي:
لَقَدْ كان في أَهْلِ الغَضَى لو دَنَا الغَضَى مَزَارٌ ولكنَّ الغَضَى لَيْسَ دَانِيَا
لَعَمْرِي لَئِنْ غَالَتْ خُرَاسَانُ هامَتِي لقد كُنْتُ عَنْ بابَيْ خراسانَ نَائِيا ([83])
فالتقابل في قول الشاعر حاصل بين اسم قريته (الغضى) وبين اسم (خراسان) وما تمثله كل منهما للشاعر، فالغضى رمز الشباب والقوة والحياة، وخراسان رمز الألم والغربة والمرض. ويعتبر هذا التقابل من إضافات الباحث بازي لأقسام التقابل.
19- تقابل التحاور: ويُقصد به «حضور حوار في نص، سواء أكان حوارا ذاتيا (المونولوج)
أو حوارا ثنائيا أو جماعيا»([84])، ومثاله قول أبي فراس الحمداني:
قال أُصَيْحَابِي الفِرَارُ أَوِ الرَّدَى قُلْتُ هما أَمْرَانِ أَحْلاَهُمَا مُرُّ ([85])
والتقابل في البيت الشعري يظهر من خلال المتحاورين (قال) (قلت) واختلاف مواقفهما من موضوع الحوار. وهذا النوع من التقابل لم يكن معروفا عند القدماء بل هو من إضافة محمد بازي.
20- تقابل التشاكل: «التشاكل هو تراكم مستوى معين من مستويات الخطاب... ونكتفي في هذا المستوى بالتشاكل النحوي، وهو تقابل في خصائص البنية النحوية نفسها»([86])، ومثاله في قول البارودي:
أَحْيَيْتُ أَنْفَاسَ القَرِيضِ بِمَنْطِقِي وَصَرَعْتُ فُرْسَانَ العَجَاجِ بِلَهْذَمِي ([87])
فالتقابل حاصل في البنية النحوية لشطري البيت الشعري والتي جاءت متشاكلة بين الشطرين على الشكل الآتي:
فعل+فاعل+مفعول به+مضاف إليه+جار ومجرور+مضاف إليه فعل+فاعل+مفعول به+مضاف إليه+جار ومجرور+مضاف إليه
والتشاكل في أقرب معانيه التماثل والتساوي ويظهر هذا المعنى جليا هنا حيث التماثل التام والتساوي في العناصر النحوية المكونة لكل شطر. وهذا التقابل أيضا من إضافات بازي لأقسام التقابل.
21- تقابل المعنى ومعنى المعنى: »والمقصود به التواجه الحاصل والمبني بين الجزئيات المعنوية الباطنية والجزئيات الظاهرة، والذي يتحقق عبر آليات بلاغية مثل: المجاز والاستعارة والكناية والتورية»([88])، ومثاله قول البحتري:
فَأَتْبَعْتُهَا أُخْرَى فَأَضْلَلْتُ نَصْلَهَا بِحَيْثُ يَكُونُ اللُّبُّ والرُّعْبُ والحِقْدُ ([89])
فالتقابل في البيت الشعري قائم بين بنية معنوية خفية هي القلب، وبنية ظاهرة (حيث يكون اللب والرعب والحقد) كنَّى بها الشاعر عن البنية الخفية، ومن ثم يحصل تقابل بين المعنى الظاهر المتبادر إلى الأذهان ومعنى المعنى المتخفي وراء الاستعمال المجازي للغة. والتقابل القائم على علاقة المجاز، خاصة الاستعارة، ذكره القدماء في تقسيماتهم للتقابل وسماه ابن أبي الأصبع بالتكافؤ، يقول فيه:« لا بد أن يأتي في الكلام المتضمن التكافؤ استعارة، فإن لم تكن فيه استعارة فلا تكافؤ» ([90])، وواضح من نص ابن أبي الأصبع أنه يشرط التكافؤ بوجود الاستعارة؛ لكن الباحث بازي وسّع الدائرة لتشمل آليات بلاغية أخرى إلى جانب الاستعارة من قبيل الكناية والتورية، وهو ما يعني أن الباحث استفاد مما قدمه القدماء وأضاف إليه.
22- التقابل الافتراضي: «هو أشكال متعددة، يمكن حصرها في تقابل المعنى المعروف/ المعاني المعجمية غير المعروفة. المعنى الافتراضي/ المعنى الحقيقي. المعنى القبلي/ المعنى البعدي. المعنى الحقيقي/ المعنى المجازي...فهو إذا تقابل ناشئ عن تلفظنا بكلمة ما، وما ينشأ عن ذلك من افتراضات، ومنها الافتراضات الوجودية» ([91])، ومن نماذج هذا التقابل قول بدر شاكر السياب:
رَحَل النهارُ
ها إِنَّهُ انطَفَأَتْ ذُبَالَتُهُ عَلَى أُفُقٍ تَوَهَّجَ دُون نَار
وجلسْتِ تَنْتَظِرينَ عَوْدَة سِنْدِبادٍ من السَّفار
والبَحْرُ يَصْرُخُ مَنْ وَرَائِكِ بالعَوَاصِفِ والرُّعُودِ
هو لَنْ يَعُود.. ([92])
فالتقابل في هذا المقطع الشعري حاصل بين رموز البنية الدلالية السطحية، وما تحيل عليه في حياة السياب الواقعية من خلال رحلته مع المرض وانتظار زوجته له. وهذا النوع من التقابل من إضافات بازي لأقسام التقابل .
23- تقابل التمثيل:«وهو تقابل يقيمه المؤوِّل بناء على واقعة أو حدث، فيبني معنى مقابلا لذلك، يستخلصه اعتمادا على طاقته التأويلية، ويتخذه حالة اعتبارية» ([93])، وقد مثل الباحث لهذا النوع من التقابل بكرامة من الكرامات نستغني عن ذكرها لطولها، والأساس في هذا التقابل أن يلجأ المؤوِّل إلى سرد واقعة يحاول من خلالها إنشاء تقابلات بين شخوصها وأحداثها من جهة وبين الشخوص والأحداث في الواقع من جهة