[size=24]معالم في طريق التأويل بالتقابل: قراءة في الخطاب المقدماتي لنظرية التأويل التقابلي لبازي
لقد أصبح الخطاب المقدماتي ذا حضور لافت لدى النقاد، يشكل وجبة شهية للقراءة باعتباره خطابا قبليا على مستوى فضاء النص، وبعديا على مستوى زمن التأليف والإنتاج. وسواء أكانت هذه المقدمة ذاتية أو غيرية فإنها تعتبر من أبرز الموازيات (les paratextes) التي تنقل القارئ إلى فضاء النص، وتمنحه تلك الشحنة المغلفة بالفضول المعرفي الذي يدفعه دفعا إلى الرحلة في عالم النص. وتصبح هذه المقدمة أحيانا بمثابة الجسر الذي لا يمكن العبور إلى النص إلا عبره، أو قل هي المعلم الذي يحدد إحداثيات النص، ويوجه القارئ إلى برج الدلالة وصومعة المعنى، ويعصمه من التيه في متاهات البحث عن الفهم السليم.
قال المتعطش لمعرفة التأويل التقابلي: حسبك من هذه الديباجة النظرية، ودعني أركب معك مركبك وخض بنا البحر البازي.
قلت: قد أجيبت دعوتك، وقضيت حاجتك. ولكن دعني بداية أبوح لك بسر، وبعدها سنركب، أو إن شئت فلنطر.
قال: تفضل، ولكن لا تطل.
قلت: إن هذه القدمة سحرتني، وعن المتن ألهتني، وإلى كلماتها أسرتني.
قال: وبم كان ذلك؟
قلت: بما طبعها من غرابة التأليف، وروعة ألتكثيف، وبلاغة في إقلال، وإيجاز من غير إخلال.
قال لقد شوقتني، وإلى عالم البلاغة أخذتني، فهات ما عندك.
قلت وبالله التوفيق:
لقد اختار الدكتور بازي لهذا الخطاب المقدماتي عنوان "في رحاب الكون المتقابل"، في إشارة إلى أن الخالق جل شأنه بنى هذا الكون على التقابل كأحد أهم الأسس التي تصور لنا جمال ودقة صنعه تعالى { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} النمل .88
فجعل لكل شيء ندا أو مقابلا، أو مشابها، أو مماثلا، أو موازيا، أو نظيرا، أو مضادا...كل ذلك من أجل إثبات وحدانيته تعالى، إنه الله تعالى الذي لا مثيل له مقابل الكون المخلوق على أساس التقابل.
هكذا إذن يكون الكون بتقابله آية بليغة دالة على وجود الله تعالى، "وما النصوص إلا فهوم للكون البليغ عبر سلالم اللغة المتقابلة"( المقدمة ص: 5). هكذا تصبح علاقة النصوص الفنية بالكون علاقة تقابلية يمكن رصدها من خلال الخطاطة الآتية:
الكون المتقابل التأويل التقابلي للنصوص
اللغة المتقابلة
إن الدكتور البازي في غنى عمن يقدم له، لذلك جاءت مقدمته ذاتية وصاغها في قالب حواري بينه وبين المؤول البليغ والعارف بمماليك التأويل. هكذا فولع الرجل بالتقابل ظاهر من خلال كتاباته، فالحوار تقابل بين الكاتب والمؤول البليغ، هذا الحوار يحيل إلى تقابل آخر وهو التقابل بين الكون البليغ في علاقته بالنصوص عبر بوابة الفهم الذي يربط النصوص الأصلية بمقابلاتها من النصوص الشارحة أو المؤولة.
إن هذه المقدمة تدل على أن الرجل واع بما قد يثار لدى قارئه ومنتقده من تساؤلات، لذلك فهو يقدم تساؤلات على لسان البليغ ليرسم من خلالها خارطة الطريق التي ينبغي على كل مؤول بالتقابل الالتزام بها حتى يظل في المسار الصحيح.
ويمكن من خلال قراءتي المتواضعة لهذه المقدمة -والتي أتمنى ألا تكون ابتسار ولا إخلالا بما قصده المؤلف- أن أرصد معالم طريق التأويل التقابلي في النقاط السبع الآتية، وقد حددتها في سبع لما لهذا العدد من حضور في الكتاب، وهي:
1-البدء بالجليات، أي بالتقابلات الواضحة التي يمكن أن يدركها العموم، ثم بعد ذلك يمكن التدرج نحو كشف التقابلات الخفية التي تحتاج إلى فطنة وذكاء وصبر ومصابرة.
2-على المؤول بالتقابل أن يعي جيدا أن طريق التأويل بالتقابل طريق يحتاج إلى تأن وحلم وصبر بعيدا عن العجلة فمن لم يركب الصعاب لا ينال الرغائب كما في المثل العربي.
3- المعنى كالفرس الجامح، وعلى المؤول بالتقابل أن يجري خلفه بذكاء ووعي إلى حين الإمساك بلجامه.
4-الباحث عن المعنى بالتأويل التقابلي مثل الربان الذي يقود مركبا في بحر النص، وعليه أن يتسلح بالعلوم التي بمثابة المجاذيف التي ستحرك المركب، فهذا المنهج يمتح من كل العلوم وبشتى مشاربها(علوم إنسانية، علوم فيزيائية، علوم البلاغة، علوم الآلة...).
5-على المتأول بالتقابل أن يجرب المفاتيح التي يقدمها له الكاتب في أقفال النصوص العنيدة والممانعة متسلحا بالصبر، حتى يجد المفتاح المناسب فتفور أمامه فوهة بركان المعاني والحقائق وذلك هو المبتغى.
6-يستدعي التأويل بالتقابل قراءة خاصة تستدعي صبرا وتؤدة، إنها قراءة تدور مع النصوص حيث دارت، وتتبعها في منعرجاتها ومنعطفاتها؛ قراءة مستبصرة وعميقة ونادرة.
7-تؤمن نظرية التأويل التقابلي بتنوع القراءات واختلافها، ولا تقدم نفسها كبديل يلغي باقي النظريات، بل تطرح نفسها كواحدة من القراءات التي لها مشروعيتها في البحث عن المعاني وبلوغ الأفهام. إنها ليست قراءة عادية بل هي قراءة تطلب المعالي؛ مبتغاها كبير، ومطلبها غال ثمين، وهو الفهم، وليس أي فهم بل هو الفهم البليغ الذي يوصل إلى إدراك بلاغة صنع الخالق جل وعلا في كونه.[/size]