[size=16]التقابلات النصية وبلاغة الخطاب النبوي: حديث الجليس الصالح وجليس السوء تمثيلا
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
التقابل خاصية كونية، وسمة من أبرز السمات التي بني عليها الكون البديع، ولما كانت النصوص مرآة تعكس صور هذا الكون، فإن التقابل يحكم بنياتها الداخلية. ومعلوم أن النصوص وجدت لتتلقى؛ فتقرأ، وتفهم ثم تؤول. وبناء على ذلك فإن المقاربة التأويلية التقابلية من أبرز الاستراتيجيات في تأويل هذه النصوص، وذلك عبر "محاذاة المعاني بعضها ببعض، وتقريب بينها في الحيز الذهني والتأويلي، عبر مواجهتها (وجها لوجه) لإحداث تجاوب ما، أو تفاعل معرفي، أو دلالي وتأويلي" .محمد بازي:تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 1431هـ، ص 9.
في هذه المحاولة نحاول قراءة حديث نبوي شريف من منطلق التأويل التقابلي، وقبل البدء نسطر فرضيات للقراءة، نجعل منها مدخلا لمقاربة النص واستشفاف أبرز معانيه التي أودعها فيه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى:
1-التقابل أسلوب نبوي في التبليغ، يسعى من خلاله النبي صلى الله عليه وسلم إلى تحقيق التواصل في أسمى صوره مع الأمة التي أرسل مبعوثا لها.
2-التأويل بالتقابل استراتيجية تمكن الدعاة من فهم الخطاب النبوي وشرحه للناس.
3-القراءة التقابلية منجز فاعل في الكشف عن بلاغة الخطاب النبوي.
1-نص الحديث:
أَخرَجَ الشّيخَانُ عَن أَبِي مُوسَىٰ الأَشعَرِي رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: ((إِنّمَا مَثَلُ الجَلِيسِ الصّالِحِ وَالجَلِيسِ السُوءِ كَحَامِلِ المِسكِ وَنافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلِ المِسكِ إِمّا أَن يُحذِيكَ، وَإمّا أَن تَبتَاعَ مِنهُ، وَإِمّا أن تَجِدَ مِنهُ رٍيحًا طَيّبةً، وَنافِخِ الكِيرِ إِمّا أَن يَحرِقَ ثِيَابَكَ، وَإمّا أَن تَجِدَ مِنهُ رِيحًا خَبِيثَةً)).
2-التقابلات السياقية:
لاشك أن دارسي الحديث النبوي الشريف يركزون على عنصرين أساسيين، هما السند والمتن، وبالتالي فأول تقابل سياقي يمكن الوقوف عنده هو تقابل السند/المتن. فالحديث رواه الشيخان مما يعني أنه ثابت الصحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يقود إلى تقابل آخر هوصحة الحديث/ العمل بالحديث، فالحديث الذي ثبتت صحته على المؤمن الأخذ بمقتضاه، فالنبي صلى الله عليه وسلم زكاه الله تعالى في قوله فقال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى) [ سورة النجم /3-4 ]، والمؤمن مأمور بالأخذ به مصداقا لقوله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } . [الحشر/7]
وهناك تقابل الراوي/المروي عنه، فالراوي هو الصحابي الجليل المعروف أبو موسى الأشعري، والمروي عنه هو محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم ثقاة، على المؤمنين أن يقتدوا بهم فهم كالنجوم بأيهم اقتدوا أفلحوا. هذه التقابلات كلها تثبت صحة القول ونسبته للنبي صلى الله عليه وسلم مما يفضي بنا إلى تقابل آخر وهو قول النبي/ انتباه المؤمن، فإذا ما سمعت أيها المؤمن قال النبي صلى الله عليه وسلم ، عليك أن تعير ذلك سمعك، فإما يريد أن يدلك على خير، ويحثك عليه، وإما يريد أن يحذرك من شر، وينهاك عنه.
وهذا التقابل الأخير يزكي مشروعيته تقابل آخر هو تقابل الشيخين مسلم/البخاري، فصحيحيهما أصح الكتب من بعد القرآن الكريم، وكلاهما وضع شروطا لتلقي الحديث، والبخاري أكثر تشددا في هذا المجال، فهذا الاتفاق على رواية هذا الحديث لا يدع لك أدنى شك أيها المؤمن في أنه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتبه!
ثم هناك تقابل يحكم العلاقة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أفراد أمته، وهو تقابل الممثل/ والممثل له. فمن أساليب التربية النبوية ضرب المثل، والمثل وسيلة فاعلة في تقريب المعاني تتطلب من المؤمنين أن يتدبروها ويعقلوا معانيها. قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾. [سورة الحشر]. والمثل : عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة؛ ليبين أحدهما الآخر ويصوره، نحو قولهم : الصيف ضيعت اللبن، فإن هذا القول يشبه قولك: أهملت وقت الإمكان أمرك. (أضواء على البيان [ 59 \ 21 ])
فالنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يبلغ أمته أمرا مهما، وهو يعلم أن فيهم القارئ والأمي، وفيهم العاقل الثاقب العقل، وفيهم المتوسط العقل، وفيهم الذكي السريع الفهم، وفيهم البطيء الثقيل الفهم، وهو بعث للناس كافة، فاختار السبيل الذي يدركه الجميع؛ فلجأ إلى مبدأ التصوير عن طريق المثل، الذي يقرب معنى الحديث بصورة بصرية مأخوذة من واقع الناس الذي يعيشونه، ويعرفونه حق المعرفة عن طريق الممارسة، حتى يتسنى لهم إدراكه وفهمه، وغير خاف دور الجانب البصري في تسهيل عملية الإدراك.
3-التقابلات النصية:
منذ البداية تتضح البنية التقابلية للخطاب النبوي في هذا الحديث، وهي هنا تظهر جلية واضحة لا تحتاج لكثير تدبر، ولا عناء استقصاء. إنه التقابل بين الجليس الصالح والجليس السوء، فكل الناس يتخذ جليسا، ولكن الجلساء صنفان، أحدهما صالح، والآخر سيء، فبعد هذا التقديم يقال فما مثلهما، فيأتي التقابل الجواب كحامل المسك و نافخ الكير، والعلاقة بين التقابلين يمكن أن نسميها تقابل التقابل الذي طرفاه هما:الجليس الصالح/الجليس السوء و حامل المسك/نافخ الكير.
ثم يأتي البيان النبوي لهذه التقابلات، فحامل المسك لا يعدم جليسه منه فائدة؛ إما كبيرة أو صغيرة، فمن يجالس حامل المسك، إما أن يستفيد منه مسكاً عن طريق الهبة، أو عن طريق الابتياع، وفي أقل أحواله يشم منه ريحاً طيبة.
وهنا يحضر تقابل ضمني هو غاية النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تقابل حامل المسك/أهل التقوى والصلاح. فحال هذا الذي ذكرنا قبيل قليل هو حال من يجالس أهل التقى والصلاح، يستفيد منهم الإرشاد إلى الخير والدلالة على ما ينفع، ليسلك سبيله كما يستفيد منهم معرفة الضار، ليجتنبه ويكون على حذر منه، فيألف بمجالستهم الخير ويعود نفسه عليه حتى يكون له خلقاً، ويبغض الشر والأشرار ويربأ بنفسه عن فعله والميل إلى أهله.
وعن التقابل الثاني الجليس السوء/ نافخ الكير، فإن الذي يجالس نافخ الكير لا يعدم مضرة ما إما في بدنه أو ثيابه، وأقل أحواله ما يشمه من ريح خبيثة، فهذا حال جليس السوء، ضرره على جليسه كبير، والمصيبة عليه عظيمة، يحبب إليه الشر ويرغبه فيه، ويزهده في الخير ويثنيه عنه، يأمر جليسه بالمنكر وينهاه عن المعروف.
ومن أوضح الأمثلة لأضرار جلساء السوء ما ثبت في الصحيحين في قصة وفاة أبي طالب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رغبه في الإسلام، ودعاه إليه عند الموت، عارض هذه الدعوة الخيرة أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية وقالا: "يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب". وكلما أعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الحق أعادا عليه دعوة الإبقاء على الباطل، والاستمرار عليه حتى كان آخر ما كلمهم به أنه على ملة عبد المطلب، والعياذ بالله.
انطلاقا من تضافر هذه التقابلات السياقية والنصية تتجلى البلاغة النبوية في أسمى صورها؛ تمثل، وتشويق، وبيان في أجل الحلل، فالمتتبع للحديث يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم، بدأ حديثه بأداة الحصر، ليبين أن الجلساء صنفان لا ثالث لهما، واستعمل كلمة "مثل" ليبين أنه يريد أن يصور حالا بحال، فلما قال "إِنّمَا مَثَلُ الجَلِيسِ الصّالِحِ وَالجَلِيسِ السُوءِ"، فكأنما قيل ما مثلهما؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم بقوله: "كَحَامِلِ المِسكِ وَنافِخِ الكِيرِ"، فازداد السامع اشتياقا وكأنما قال: ما حالهم؟ فيأتي البيان النبوي ناصعا: "فَحَامِلِ المِسكِ إِمّا أَن يُحذِيكَ، وَإمّا أَن تَبتَاعَ مِنهُ، وَإِمّا أن تَجِدَ مِنهُ رٍيحًا طَيّبةً، وَنافِخِ الكِيرِ إِمّا أَن يَحرِقَ ثِيَابَكَ، وَإمّا أَن تَجِدَ مِنهُ رِيحًا خَبِيثَةً".
4-العبرة من الحديث:
تسمح هذه القراءة التقابلي لهذا الحديث النبوي الشريف باستخلاص العبرة الآتية، والتي مفادها، إنك أيها الإنسان لا تستطيع أن تعيش وحدك منعزلا عن الناس، وإذن فلا بد لك من جليس أو جلساء، تأوي إليهم، وتحدثهم ويحدثونك، وتبادلهم الآراء، و تشير عليهم، ويشيرون عليك. واعلم أنك ستجد أمامك صنفين من الجلساء؛ أحدهما صالحا تقيا يريد لك الخير كما يريده لنفسه، يبذل لك النصح، ويخشى عليك الهلاك، ويحب لك الفلاح في الدنيا والآخرة، كلما جلست إليه جنيت منفعة إما مادية وإما معنوية، وهو في ذلك مثل بائع المسك الذي إما أن يهديك مسكا، أو يبيعك منه، أو تشم منه رائحة طيبة حتى ولو لم يعطك، ولم يبعك. والصنف الثاني جليس سوء، يدلك على الشر، ويدفعك للهلاك، يلهيك عن أمور طاعتك، ويشغلك بما لا ينفعك، وأنت دائما معه في خسران، كأنك تجالس نافخ كير، فهو إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تشم منه رائحة منتنة. إنك أمام طريقين مختلفين متباينين فانظر ماذا تختار، وإذا كنت عاقلا ما أظنك إلا ستتدبر المثل وستسلك الطريق الأول.
انطلاقا مما سبق، اتضحت صحة ما افترضناه في البداية، وليس هذا الحد الذي وقفنا عنده هو النهاية، فالحديث مازال يعطي إذا أولي العناية، ولكن حسبنا من الجهد ما دل على الغاية. والله أسأل أن يغفر لي ما كان في قولي من الزيغ عن سبيل الهداية.[/size]