ستظل أمواج الكتابة تدحوك نحو البياض الذي ينتظرك!
إلى إبراهيم أكراف
عادة لا أنُهي_ قراءةً وتتبعا_ إلا الكتب التي تستهويني مطالعها، ثم تشدني إليها بصناعتها وجمالها الأدبي. منذ ثلاثة أيام أهديتني نسخة من روايتك الأولى" وصايا جدي" على هامش تكريم الأستاذ أحمد بوحسن بالمكتبة الوطنية بالرباط، وكنتُ متطلعا لقراءتها واكتشاف عوالمها. وبالفعل قدَّمتُها على الكتب التي بين يدي،فسَبَق فرسُ إحساسي فرسَ فَراستي. قرأت نصك الجميل في جلستين: الأولى في صباح طري بقلب العاصمة،أخذت مكاني في واجهة شارع يخترقه "الترامواي" منسابا بأناقة ووقار عساه يعيد الدفء إلى جهات المدينة الباردة.والثانية مساء اليوم نفسه داخل القطار المتوجه إلى مراكش هادرا مزمجرا مثل سوط يُلهِب ظهور السهول التي يخترقها. تمت القراءة بين قطارين يعبران الأمكنة، يعبرهما الزمن ويعبرانه. هذه الألوان من العبور، ومنها عبوري_أنا العابر _ بين عوالم روايتك، رافقها انبهاري بأسلوبك في الكتابة، وقدرتك على جودة الصياغة، وتحقيق دقة الوصف وانسيابية السرد في تناميه، وبناء الحوارات بأسلوب جذاب، إلى جانب التلميحات والرموز البعيدة الغور، والاختزال والكثافة اللغوية، والقصد إلى تعرية الواقع السياسي بكل أشكاله، وفي أبعاده الداخلية والخارجية.
كان لحضور هذه الخصائص في نصك دور في تحريك شهية كتابة هذه الانطباعات الأولية خلال المسافة المتبقية من رحلة القطار.وقد منحني امتدادها، وصمت الرُّكاب داخل مقطورة القطار الشبيهة بقاعة كبيرة للانتظار، الفرصة لتدوين المسودة الأولى على حواف روايتك وهوامشها تقديرا لها؛ فالكتب التي تشدني أعاملها معاملة خاصة، إذ أترك عليها أثر عبوري وتفاعلي الإيجابي. ومن ثمة تقابَل الفضاءان العامران بالخطوط والكلمات المرسومة: خطوط كتابك المنتظمة طباعةً وصناعةً فنية، وخطوطي المرتجة/ المرتجفة بفعل حركة القطار، وحركة الدواخل المتفاعلة مع ما قرأتُ.وقد سارعت في تدوينها حتى لا تخالطها/ تزاحمها انشغالات أخرى محتملة.
وشَّحتَ إهداءَك بكلمة ذكرتَ فيها ما تتوقع أن يكشف عنه نصك السردي من ألوان التقابل بينا، لعِلمِك باهتمامي بالتواجهات الحاصلة بين النصوص والعوالم، والقصديات.. ومحاولتي كشف الحُحب عن أدوارها وأسرارها في تبيان نظام الكون، ونظام تأويله. وقد وجدتُ بالفعل ما خالجَك من أمر التقابل هذا...فقد سعدت بقراءة روايتك، لأني وجدتُكَ قد ارتقيتَ إلى قمة الصناعة السردية، وبَرَيْتَ رمح اللغة بعناية، وسدَّدْتَ فأحسنتَ التسديد، ثم أصبتَ الهدف؛ هدف امتلاك ناصية الكتابةالأدبية، مُبلِّغا مقاصدك الكبرى، قابضا على رهانات حمل القلم. ووجدتك في كل ذلك كاتبا محترفا، مُلِمًّا بأدوات الكتابة وأساليبها. وعلى قدر كبير من الموهبة الأدبية، فتحققت لنصك جماليته الفنية العالية التي تجعل منه _ في تقديري_ قاعدة قوية سيتأسس عليها مسارك الأدبي فيما يستقبل من الأعمال.
تتميز كتابتك بقوة داخلية عميقة، وبإفصاحات صادقة دفعت الأحداث في تسلسل انسيابي باهر معبرةً عن هموم اجتماعية وسياسية ومعرفية بكل شفافية، فاضحة الكثير من الأوضاع المهترئة العارية . ومما حقق لنصك جماليتَه بلاغتُه الحوارية مع نصوص كثيرة: القرآن الكريم، الشعر القديم والحديث، والكلام اليومي. فحصل التفاعل مع تلك النصوص بطريقة فنية رائعة، أضفتْ عليه خاصية الأدبية، أي ما يكون به الأدب أدبا، وبلاغته السردية أي ما يكون به السرد بليغا مبلغا فاتحا جبهات عديدة للفهم والتأويل وامتدادات مفتوحة للقراءات الناضجة.
وإذ أرى الآن أمامي هذا التفاعل التقابلي بين ما كتبتَه، وما أخطُّهُ الآن طريا كما يفيض به الإحساس الفني، أُقِر بشكل لا التباس فيه ولا مجاملة لنفسي ولا لك بميلاد كاتب حقيقي داخلك،جنوبيَّ الروح والجذور، متعددَ الجهات في حضوره وإزهاره وإثماره.يملك من الأدوات الفنية والإحساس الأدبي المرهف، وذكاء الاشتغال على اللغة، والقدرة على توظيف الروافد النصية ما يجعله جديرا بهذا الإقرار. إضافة إلى المنحى الواقعي الذي اختاره، وذكائه في التقاط تفاصيل الحياة البدوية ومزجها مع الحياة المدنية مزجا بانيا لصناعة الرواية.
عزيزي إبراهيم
أوشكت رحلة القطار أن تنتهي،ولكن رحلتَك ستطول بلا شك مع الكتابة.. وإني مبتهج لأن تقاطعات هذه القطارات: قطارات السفر، وقطار روايتك، وأخيرا قطار التفاعل مع عملك، وقطارات أخرى أراها تتأهب على سكك الانطلاق... قد منحتني فرصة تدوين ما اختلج في نفسي بصدق وصفاء داخلي، فاستجاب القلم لحركة اليد التي استجابت طائعة لإحساسي بجمال تجربتك في هذا العمل الذي يحمل الكثير من مواصفات الكتابة الاحترافية. وأنا متأكد أنك بعد أخذ نفس جديد، أو أنفاس جديدة بحسب المرات التي ستدحوك فيها أمواج الكتابة وإزبادات المعنى نحو البياض الذي ينتظرك، وأراك منذ الآن من المبحرين....
أرفع بصري الآن نحو السهول الواسعة الممتدة التي تسافر بلا وداع في الاتجاه المعاكس، وقد أمالها المدى فمالت بقمح حال لونه إلى صفرة الحصاد، ثم أقول: ستظل صناعة الأدب الجميل تملأ مسارك الواعد مثلما ملأت السنابل في تواضع كل هذا الرَّحب المديد.
محمد بازي
يوم 27 أبريل 2013
قطار الرباط مراكش