محمد بازي، تقابلات النص وبلاغة الخطاب: نحو تأويل تقابلي، الدار العربية للعلوم ناشرون-بيروت،2010
حرص الباحث والكاتب والمحلل الثقافي محمد بازي على أن يتخذ لنفسه مساراً علمياً تأويلياً، يستمد منهجه من تراث الإنسانية جمعاء، ومن تراث الأمة العربية والإسلامية بالذات، ويستعين، في بنائه واستلهام أدوات اشتغاله، بكل ما استجد على الساحة الثقافية والفكرية من كتابات العرب والغرب في هذا المجال، والدليل على ذلك استمرار حضور دال (التأويل) في معظم ما ألف ونشر إلى اليوم؛ فبعد أطروحة الماجستير المعنونة بـ: "النص واستراتيجيات التأويل: مقاربة في خطاب التفسير"، جاءت أطروحته للدكتوراه التي أصدرها في كتاب حصل به على جائزة المغرب في النقد الأدبي للعام (2010م). وهذا الكتاب الذي حمل عنوان: التأويلية العربية: نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات، فغاير به عنوان الأطروحة وتعالق معه في الآن نفسه، أُتبع بكتابين آخرين حمل الأول منهما عنوان: تقابلات النص وبلاغة الخطاب: نحو تأويل تقابلي، وحمل الثاني عنوان: العنوان في الثقافة العربية: التشكيل ومسالك التأويل.
وإذا ما غضضنا الطرف عن بقية مؤلفاته، التي تناهبتها حقول معرفية وثقافية وإبداعية أخرى، فإننا نجد الدار العربية للعلوم ناشرون بمعية منشورات الاختلاف قد احتضنتا مشروعه التأويلي الذي يؤسس له في كل كتاب استراتيجية جديدة للقراءة. وبما أنه يصعب علينا عرض مشروعه الذي يؤسس له وقراءته قراءة مستفيضة، فقد اكتفينا بتقديم إصداره الثاني محاولين تجاوز العرض إلى القراءة.
من تقابلات النص إلى تقابلات المتن:
يقع كتاب تقابلات النص وبلاغة الخطاب: نحو تأويل تقابلي لمحمد بازي في مائة وثلاثة وثمانين صفحة من القطع الصغير، تتوزع عليها فصوله الستة وفق استراتيجية التقابل التي تبناها في تحليله للنصوص المقروءة؛ فإذا ما كان قد أخذ في الفصل الأول نص "الفاتحة" من القرآن وأخذ كتاب "إحياء علوم الدين" للغزالي في الفصل الثاني، و"مرثية مالك بن الريب" في الثالث، وقصيدة "نسر" لعمر أبي ريشة في الرابع، و"قراءة الكرامة الصوفية" عند كل من محمد مفتاح وعبد الفتاح كليطو في الخامس، و"نماذج حكمية" من محاضرات اليوسي في السادس، فإنه بالإمكان حصر هذه النصوص في خطابات متقابلة ثلاثة يمكن ترتيبها حسب الآتي:
1- الخطاب الديني: ويشتمل على نص "الفاتحة" وكتاب الغزالي في الفصلين الأولين.
2- الخطاب الشعري: ويشتمل على نصي مالك بن الريب وعمر أبي ريشة في الفصلين: الثالث والرابع.
3- الخطاب النثري: ويشتمل على قراءة تحليل كل من مفتاح وكليطو لنصوص الكرامات في الفصل الخامس وتحليل نصوص حكمية لليوسي في السادس.
إن سعينا إلى إعادة تركيب النصوص المقروءة في خطابات عامة تقرب للقارئ من استراتيجية التأويل التقابلي التي تبناها محمد بازي في كتابه هذا؛ فإذا ما كان الخطاب الديني يقف مقابلاً للخطاب الشعري، فإن الثاني يقف في مقابل الخطاب النثري، وإذا ما كان نص الفاتحة، باعتباره نصاً إلهياً، يقف في مقابل نص الغزالي في الخطاب الديني باعتباره نصاً بشرياً، فإن النص القديم سيقابل النص الحديث في الخطاب الشعري، والنصوص النقدية ستقابل النصوص الإبداعية في الخطاب النثري، وإن اعتمدنا نصوص الكرامات نفسها فسنقول إن اللاعقلاني منها (الكرامات) سيقابل العقلاني(الحكم).
وبما أن إمكانية عرض تفاصيل التحليل الذي وقع على النصوص يعد ابتساراً وإخلالاً، وقد يكون أمراً لا مشروعاً في سياقات العرض والقراءة لمثل هذه الكتب، فإننا سنكتفي بعرض مصطلحات المفاهيم التقابلية التي ذكرها في خاتمة الكتاب، مستخلصاً إياها من الاشتغال على مجموعة متنوعة من الظواهر النصية في كتب أخرى له وموظفاً لها في تحليله للنصوص المقروءة في هذا الكتاب. ومصطلحات مفاهيم التقابل هذه يمكن إجمالها في: تقابل الإثبات والنفي، وتقابل الآحاد، والتقابل الافتراضي، وتقابل الأمكنة، والتقابلات الاستتباعية، والتقابلات الصغرى المؤطرة، والتقابلات الكبرى، والتقابلات النصية المؤطرة، وتقابل التحاور وتقابل التراتب وتقابل التشابه وتقابل التشارك اللفظي وتقابل التشاكل وتقابل التصدير، وتقابل التفارق، وتقابل التمثيل، وتقابل التناسب، وتقابل الحاضر والغائب، وتقابل حال الذوات، وتقابل الخبر والإنشاء، وتقابل الخطاب، والتقابل الزمني، وتقابل الصيغ والأوزان، وتقابل الظاهر والباطن، والفاعل والمفعول، والتقابل المتعدد، وتقابل المعنى ومعنى المعنى، وتقابل المقاصد، والمقاطع أو الفقرات، وتقابل النسق، والنسق التواصلي، وتقابل النص والسياق، والنص والعنوان، والتقابل النظيري، والنظائر النصية، والتقابل النقيضي والنووي.
قد توحي الدوال الواقعة في الرتبة الثانية من التراكيب البسيطة بمفاهيمها التي تحيل عليها، ولكن إدخال دال (تقابل/التقابل/تقابلات) سيجعلنا نتساءل عن سر تركيبه لمصطلحين متمايزين لغوياً وبلاغياً وعن مفهومه لمصطلح التقابل بالذات.
مفهوم التأويل التقابلي:
كرس المؤلف مقدمة الكتاب ومقاطع مختلفة في متن الكتاب لتحديد مفهوم (التأويل التقابلي)، دون أن يفرد لذلك فضاء تنظيرياً يحكك فيه مفاهيم مصطلحاته؛ ولذا لم نجده يشير إلى دلالة مصطلح التقابل مفرداً إلا حينما تطرق إلى مفهوم المقابل اللغوي ومفهومها البلاغي، الذي يختلف من وجهة نظره عن مفهوم التقابل، إلا أنه يحتويها(160)، وحينما عرض لدراستي أحمد أبو زيد وفايز القرعان اللذين وسعا فيه دون أن يذهبا به مذاهب مضللة لأفق توقعات القارئ عنه، ولكننا وجدنا الدكتور بازي يوسع في مفهومه إلى أبعد مدى حينما يقرنه بالتأويل.
فإذا ما كان جل تحليله يصب في دائرة المواجهة التقابلية بين الأضداد، والمتناقضات، والاختلافات، ورصدها على مستوى البناء، وعلى مستوى الدلالة، ففي تحليله ذاك ما لا يقع في دائرة المواجهة التقابلية كالترادف والتنامي والتتميم والتراتب، وفيه ما يتداخل مع التقابل على مستوى العلاقة الموقعية، ويتخارج معه على مستوى العلاقات التناظرية والتشابهية كالتشبيه والتماثل والتمثيل والتطابق والتوازي؛ أي أن التقابل لديه عبارة عن قراءة لدال أو مدلول ما من خلال استدعائه، أو استحضاره، أو مقارنته، أو مواجهته بدال أو مدلول آخر كيفما كانت العلاقة الرابطة بينهما(159-160)، متناسياً أن انعكاس صفحة الوجه على الماء فيه تقابل وتماثل في الآن نفسه؛ أي أننا بمصطلحات محمد بازي سنكون، في هذا المثال، أمام تقابل التقابل وتقابل التماثل، وهذا هو ما سيدخلنا في دوامة الاضطراب المصطلحي الذي سيستتبعه اضطراب مفهومي.
ولعل هذا الضباب الكثيف حول مفهوم التقابل، هو الذي جعله يتجاوز تدقيقه؛ ليمفهم مقصوده من استراتيجية التأويل التقابلي من أول كلمة في المقدمة قائلاً: "التأويل التقابلي استراتيجية قرائية لصناعة المعنى، يمكن الاشتغال بها لفهم النصوص والخطابات وتفهيمها، وهي اختيار إجرائي أسه محاذاة المعاني بعضها ببعض، و[الـ]ـتقريب بينها في الحيز الذهني والتأويلي، عبر مواجهتها (وجهاً لوجه)؛ لإحداث تجاوب ما، أو تفاعل معرفي، أو دلالي وتأويلي"(9).
إذن، التأويل التقابلي استراتيجية قرائية وتأويلية لا تبحث في المعنى عن طريق تجليات التقابل المعروف فقط، وإنما تقترح آليات للتأويل اضطرته إلى توسيع مفهوم التقابل ليشمل التجاور والمحاذاة والتقريب بين المعاني على مستوى التصور والتعرف والإدراك، كما يشمل المواجهة بين بنيتين أو وضعين أو موقفين، وذلك من أجل فهم النص وإفهامه، انطلاقاً من بنيته، ومن سياقاته التي تتساند فيما بينها أثناء القراءة. ولكن هذا التوسيع تفلت من ضوابطه ولم يعد يعرف لنفسه حدوداً، حتى إن القارئ ليشعر أنه بالإمكان إدراج كل ما عرف من مصطلحات ومفاهيم بلاغية ونقدية تحت مصطلح التقابل، الذي يوشك أن يصبح علامة اعتباطية يمكنها أن تكتنف كل ما يقع في طريقها من مصطلحات ومفاهيم وآليات كانت ستكون أكثر فعالية في القراءة التأويلية لو تركت مفرقة ولم يحصرها في مصطلح التقابل الذي عطل على القارئ التصور المتعدد للتأويل. ولعل ميولاته الصوفية المتجلية في كتاباته هي التي أوقعته في أسر أبي حامد الغزالي، الذي أصبح يرى معه التقابل خاصية كونية تكتنف كل شيء في الوجود إلا الله(50، 160) وتتجاوز بنيته الثنائية، التي تعد التوصيف الأنسب لعمله التأويلي هذا(50،105)، إلى ما هو أكثر من ذلك(17).
على سبيل القراءة
لقد صار من المعروف، في علوم الصيدلة والطب، أن نجاح أي منتج دوائي يتوقف على مدى فاعليته في شفاء عدد مشروط من الحالات المرضية، وهذا النهج هو الذي سار عليه محمد بازي؛ فقد سعى إلى اختبار مشروعه القرائي المقترح، حتى يبرهن على نجاعته وفاعليته، وإمكانية تطبيقه على عدد من النصوص والخطابات التي ميز بين مفهوم كل منها في مبحث مستقل، كما أنه لم يقف به عند حدود البنيات الجزئية المفتتة إلى أصوات أو كلمات أو جمل/تراكيب، رغم كثرتها المفرطة، ولكن قراءته التأويلية التقابلية طالت البنيات الكلية للنصوص والخطابات المقروءة؛ فقد وجد، على سبيل المثال، أن الخطاب النقدي المطبق على نصوص الكرامات يتخذ له، في تأويلية محمد مفتاح، عتاداً نظرياً يتسلح به قبل أن يدلف إلى التحليل، بينما تبتعد تأويلية كليطو عن عتاد المفاهيم النظرية لتواجه النصوص مباشرة، وهذا هو ما يفسر غياب التنظير عن تآليف الأخير(146).
وبما أن التأويلية، عند بازي، تعد بديلاً للمنهج الأحادي(130)، فإنها أثناء تحليلاتها لم تراع سوى إنتاج الجوانب الدلالية والوظائف الإقناعية بالمحاججة ووسائل التأثير على المتلقي، مغفلة للجوانب الجمالية التي تكتظ بها النصوص؛ لأن اهتمامها لا يكون منصباً إلا على المعنى، كما أن وجوده كمنهج بديل عن المناهج الأحادية هو الذي خول للدكتور بازي الانطلاق في تحليل النصوص وتأويلها من داخلها ومن خارجها(15، 18، 29)، مستعيناً بعدد من الآليات التساندية القادرة على استبطان النصوص التي لها امتدادات بما هو خارج عنها حسب قوله(130)؛ الأمر الذي كان يجنح به، في بعض الأحيان، إلى الخروج عن مقترحه المنهجي ليسرح في عوالم أخرى(58 وما بعدها)، أو أن يتعامل مع التأويل مرة على أنه أداة للتحليل ومرة على أنه موضوع التحليل، وهذا هو الذي دفع به إلى التذكير الدائم والمكرر بآليات الاشتغال وبكيفياته(مثال:33-34).
ومما يمكن أن يجر إليه البديل التأويلي المتعدد بمقترحه التقابلي عدم وجود آليات ضابطة لاستنباط التقابلات، رغم أن بازي استلهم فكرة التأويل التقابلي هذه من أمبرتو إيكو الذي حاول ضبط بنيات التقابل التي يمكن أن تتجلى في أي نص(92)، ولكن طموح توسعة تقابلات إيكو جعل بازي يرخي الحبل كثيراً فأصبح يجر معه كل ما يقع في طريقه، حتى تهيأ لنا أن التأويل بالتقابل يمكنه أن يبتلع كل شيء يجده أمامه؛ الأمر الذي يحملنا على القول إنه لم يسع لأن يضع حدوداً للتقابل(131).
وإذا ما كان التقابل بمفهومه اللغوي والاصطلاحي يعد من أهم آليات العقل البري أو البدائي في إدراك العالم، فالتعامل معه كآلية تحليلية أو تأويلية يجب أن يوجه لشريحة محددة من الناس، ولعل هذا هو ما حدا بالمؤلف إلى التركيز الشديد على بيداغوجية/تربوية كتابه واختصاص النشء والشباب والتلاميذ والطلبه به؛ لأنه ييسر لهم الوقوف على دلالات النصوص وأسرارها بطريقة مبسطة ومبتدئة وتعليمية(9، 106، 176)، ولا يكشف اهتمامه بهذه الشريحة عن طبيعة عمله في المجال الحياتي فقط، ولكنه يكشف عن حرص شديد منه على إعادة تفعيل قدرة هذه الآلية البدائية في توليد دلالات النصوص وتأويلها والغوص في أعماقها، خاصة بعد أن حاول كريماس، في مربعه السيميائي، الكشف عن عورة التحديات الثنائية في الإدراك.
لا يتبقى لنا في ختام هذا العرض/القراءة إلا أن نقول إن بازي طموح جداً في تأسيس المشاريع؛ ولذا جاء العنوان الفرعي لكتابه هذا متابعاً للعنوان الفرعي لكتاب التأويلية العربية ومنسجماً معه؛ فدال (نحو...) لا يوحي بفكرة التأسيس فقط، ولكنه يوحي بأهمية تغيير عاداتنا في قراءة النصوص والخروج منها بتصور نظري بعد الممارسة التطبيقية التي تجلى الإيحاء بتقابلها مع التنظير في العنوان على المستوى البصري والشكلي والدلالي، كما يوحي الدال نفسه بالاستشراف المستقبلي لما يؤسس له بعد أن يتعرض للتطويرات والإضافات التي ستمكنه من أن يكون منهجاً فاعلاً في قراءة النصوص بمختلف أنواعها وأجناسها.
محمد الكُمَيم أستاذ باحث من اليمن