هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
السلام عليكم زوار وأعضاء منتديات التأويلية العربية..الإعلانات أعلى وأسفل صفحة المنتدى لا تمت لإدارة المنتدى بصلة

 

  بِعَكْسِ عَجَلَةِ فِرْجِيلْ - محمد بنطلحة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
محمد بازي
مشرف عام
مشرف عام
محمد بازي


عدد المساهمات : 32
تاريخ التسجيل : 24/08/2013

 بِعَكْسِ عَجَلَةِ فِرْجِيلْ - محمد بنطلحة Empty
مُساهمةموضوع: بِعَكْسِ عَجَلَةِ فِرْجِيلْ - محمد بنطلحة    بِعَكْسِ عَجَلَةِ فِرْجِيلْ - محمد بنطلحة Emptyالأحد أغسطس 25, 2013 2:41 pm

بِعَكْسِ عَجَلَةِ فِرْجِيلْ - محمد بنطلحة


« فَوْقَ غَيْمَةٍ وَلاَ أَقَعُ.»
داليا رافيكوفيتش

قبل بضعة أيام وأنا أتصفح جرائد الصباح وقعت عيناي على الخبر التالي:
«سيميائيات الشعر. قراءات في تجربة محمد بنطلحة الشعرية». للتو، قلت مع
نفسي : لا مناص. سوف أكون في الموعد. توقعت المتعة والفائدة. فالموضوع خصب،
والمحافل (الجامعة ، الكلية، الشعبة، مجموعة البحث) لها وزنها وإشعاعها.
والأسماء المساهمة لها سمعتها ومكانتها. ثم إن الهاجس هاهنا ليس دفتر
التحملات، ولكن البحث العلمي وما يقتضيه من دقة وموضوعية.
خبر مثل هذا بث الحيوية في أطرافي. مخيلتي انتعشت. والتداعيات أخذت تتقاطر:
مادلينة مارسيل بروست. جريدة جاك بريفير. ملاعق تـ.س. إليوت. شاي بول لولز
في الصحراء، وشاي غريغوري كورسو في مقهى الحافة، محمود درويش هو الآخر مثل
أمامي، ومن ورائه صوت مارسيل خليفة: أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي . محمد
شكري أيضا من خلال رائحة الخبز الحافي. كم دلالة! كم سياق! والمرجع هو هو.
أيتها المخيلة! أدميت جرحي . وزدت فضولي .
للحقيقة، ليس الفضول المعرفي وحده هو ما أخذ بتلابيبي عند هذه العتبة.
كان هنالك أيضا ذلك التشابه القوي بين صورتي المنعكسة على الواجهة
الزجاجية للمقهى، وصورة الشاعر المرفقة بالخبر. لمست وجهي بكلتا يدي حتى
أتأكد من أنني لست من ورق، بل من لحم ودم. وأنني شخص آخر غير هذا الذي ينظر
إلي من بين أعمدة الجريدة بريبة غريبة، وغير ذلك الذي ما زال قبالتي، في
الواجهة الزجاجية للمقهى ، لا يغادر صغيرة أو كبيرة من حركاتي دون أن يقوم
بمحاكاتها، لهذا وفي رمشة عين، قفزت إلى ذهني فكرة أفلاطون عن العوالم
الثلاثة. ولكنني سرعان ما استبعدتُ الفكرة. فأنا في كامل وعيي، وأنا جالس
في مقهى وليس في كهف. ثم إنه ليس وراء ظهري لا نيران ولا أشباح.
في هذه الأثناء، نهض أحد الزبناء من مكانه . ثم تقدم مني وصافحني
بحرارة وهو يوجه الكلام إلي على أساس أنني هو الشاعر محمد بنطلحة. عقدت
الدهشة لساني . تلعثمت. وفي الأخير ، بلعت ريقي، وقلت له: لا، يا سيدي! ليس
هذا هو اسمي. ألم تقرأ الفصل XI من الأوديسا؟ أنا اسمي: لا أحد. هكذا
يناديني أهلي ومعارفي. وهذا هو ما قلته في « بيان حقيقة» سبق لي أن نشرته
في جريدة الاتحاد الاشتراكي ( عدد 7537 بتاريخ 2004.04.02 ) وهو البيان
الذي لعلك قرأته في حينه، والذي كان في نيتي أن أعيد نشره لاحقا في كتاب
ارتأيت أن يكون عنوانه : « كذبت على نفسي» لاعتقادي أنه عنوان مناسب. مطابق
لمقتضى الحال. يقول حقيقة النص. ويستجيب- سواء باعتباره كيانا مستقلا أو
مجرد منطقة حدودية - للمعايير التي استقرأها ذوو الاختصاص، وفي طليعتهم
رولان بارت، والتي تنص على أن من شأن العنوان أن يسمح بالتعرف على نمط
الخطاب ونوع النص. وأن يخبر عن المضمون . وأن يفتح شهية القارئ .
للأسف ، تصرف أحدهم من وراء ظهري. لا لشيء ، فقط لأنه يحمل اسمي. تسرع
ونشر الكتاب تحت عنوان آخر : « قليلا أكثر». هل هذا عنوان- من أين للقارئ
أن يدخل من خلاله إلى حقل الممكن- كيف يعبر إلى أجزائه : سباحة على الظهر -
أم فوق دراجة نارية - من باب المحايثة - أم من باب التعالي - بالله عليك!
قل لي . ماذا أفعل وقد خاب أفق انتظاري؟
كنت أنتظر أن يحيل العنوان، على الأقل، على المعنى المراد. أقصد :
تقريظ الكذب. فأنا لي وجهة نظر مختلفة عن تلك التي عبر عنها جان جاك روسو
حين كان يتجول لوحده، وقال في « النزهة الرابعة» ما أترجمه بتصرف هكذا : «
الكذب على النفس تدجيل» . ولكن ، للأمانة العلمية وتلافيا للوقوع في عكس
المعنى ، أورد هاهنا كلام الرجل كما قاله بعظمة لسانه :
«Mentir pour son avantage à soi-même est une imposture»
ماذا أفعل إذن وأنا كلما وقعت على ثقب في جدار اللغة، وحاولت أن أعبر
منه إلى صلب المعنى وقعت على أفعى مجنحة ومن ورائها شعوب وقبائل؟ هل أتجاهل
السؤال برمته وأشرب السم ؟ سبقني سقراط . لا شك بعد أن فهم جيدا أن كل شيء
، في هذه الدنيا، بمشيئة اللسان: الحياة والموت. عند الضرورة أفعل . ولكن ،
أنا لست سقراط. هو ، مهما حاول أن يكذب فسوف يفضحه نهج سيرته الذاتية (
الزوجة سليطة اللسان، الأم قابلة، الأب حفار قبور). وهذا ما كان يخشاه .
ولذلك ، لربما أيضا، ذهب ولم يترك وراءه أي عنوان. والغريب أنه ذهب مثلما
جاء: يمشي وهو يتكلم. ذلك من حقه ، فهو فيلسوف . أما أنا فغاية ما أصبو
إليه أن أكون[أولا أكون] شاعرا. سؤال الكينونة عندي هو الأساس، مصيبتي أن
الشاعر ، من بعض النواحي ، ليس كالفيلسوف. إنه [ كالآلهة عند الإغريق] لا
يتكلم كثيرا. ولكن ، كل ما يقوله يحدث . أنا ما حدث أن قلت شيئا وحدث.
بالعكس، أنا لا أتكلم إطلاقا . أكتفي بـ»النصبة « مثلما بَيَّن وتبيَّن
الجاحظ. والمفارقة أنني ، في كل مرة، أكتشف أن هنالك من يتكلم بلساني : في
الهاتف ، في البريد الإلكتروني ، في الفايس بوك، على صفحات الجرائد ، فوق
الجدران .. إلخ. علما أنني لم أفتح باسمي - على حد ما أعلم إلى حد الآن -
أي صفحة أو أي حساب في أي موقع أو أي شبكة أو أي روم . قد يكون انفصام
الشخصية هو السبب . من يدري؟ فأنا أحار كثيرا قبل أن اقطع أي طريق ، ولا
سيما طريق الحبر. لربما لأن المعاني غير مطروحة فيه، ولكن في الطريق العام.
ناهيك عن أن الأشجار التي تمتد على جانبيه لها عيون وآذان . يا ألله ! كم
شجرة نسب لي ! كم عم ! وكم خال!
هاهنا رأيت أوداج صاحبي تنتفخ. كان ما يزال منتصبا أمامي والعرق يتصبب
من جبينه بغزارة. منظره ذاك جعلني أتقمص شخصية ألوسوس بيرتران وأشفق عليه.
طلبت من النادل أن يقدم له كأس ماء. ثم أمسكته من مرفقه. وأشرت إليه أن
يجر كرسيا وأن يجلس حتى يستوي الكلام بيننا. قبل على مضض. ولكن ما أن استوى
في جلسته حتى هب صائحا في وجهي: ما هذا؟ درس افتتاحي في غير أوانه، ومن
غير عنوان؟ مشروع مقالة تنتصر فيها للكوفيين الذين يذهبون إلى أن « الاسم
مشتق من الوسم وهو العلامة» على حساب البصريين الذين يذهبون إلى « أنه مشتق
من السمو وهو العلو»؟ كن في غاية « الإنصاف». أم هذه مداخلة أنت بصدد
إعدادها حول تجربتك الشعرية بقصد تقديمها ، خلال بضعة أيام، في ندوة «
سيميائيات الشعر» في الدار البيضاء ؟ كيفما كان الأمر ، لا تغير دفة
النقاش. دعنا في ما نحن فيه.
قلت: الأشياء مترابطة . قال : ليس إلى هذا الحد. هاك كتابك. هاك»
قليلا أكثر». اقرأه صفحة صفحة ، من الأول إلى الآخر، دون أن تقفز على
السطور. وإن قفزت ? ولو بمظلة ? في هواء المعنى فحذار من
الثقوب السوداء. هاك. اقرأ وسوف تجد أنك أنت بنفسك من ذكرت في ص. 47 اسمك
الصريح: محمد بنطلحة . قلت: دقق. ذلك شخص لا أعرفه إلا من بعيد، من خلال ما
قرأت له أو عنه. والدليل أنني قلت من الأول إن الـ» اسم مستعار» . ماذا
تريد أكثر؟ لدي دليل آخر: أنا من العصر الحجري، وهو من عصر الأنترنيت
والتوماهوك والهواتف الذكية. عد إلى الصفحة ذاتها وسوف تجدني أقول في آخرها
: كيف أكون معاصرا له وكل ما بيننا ظلال وأقنعة؟ هل اقتنعت؟ أم أن «
المعاصرة حجاب»؟
قال: بالعكس ، أنت الذي عليك أن تدقق أكثر. عد إلى كلود ليفي ستروس
وسوف تجده يقول بفصيح العبارة : « الاسم الشخصي استعارة للشخص» . ركز معي
جيدا وسوف تجد كذلك أن الاستعارة هي حجر الزاوية في أي بناء شعري. أين هو
الإشكال إذن : في « رؤية المتشابهات «؟ أم في تقليصها إلى أبعد حد؟ في
الادعاء ؟ في الاستبدال؟ أم في تعديل المضمون الدلالي؟ ميز أولا بين السمات
النووية والسمات السياقية ، ثم رد عليّ.
سولت لي نفسي أن أقول له : ما سَمِعَتْ بهذا لاسمرقند ولا بابل.
ولكنني تراجعت مخافة أن أخرج عن الموضوع من جديد. في العمق ، ما كان ليكون
هنالك موضوع أصلا لو لم تكن هنالك لغة. ما العمل إذن واللغة ذاتها ? بما
في ذلك الصينية ? كالسقف قد تقي من المطر، ولكن ليس من الرعد. هكذا هي
الأشياء منذ أن تجمد الماء في الركب، أو لربما منذ أن أراد الإنسان الأول
أن يتخطى العتبة ( أي عتبة : عتبة العنوان؟ عتبة النص؟ أم عتبة الروح؟ )
وإذا به يقرأ فوق باب الحديقة : « حذار ! كلب شرس». من أين لي إذن أن أقفز
فوق دهر اللغة وأنا أعزل . لا قوس. لا مصباح يد. لا بندقية . ولا حتى عصا؟
من حسن طالعي، فعلا ، أن [ كلمة « كلب» لا تعض] . ليتني أورفيوس! ولكن كيف
وأنا ما زلت لم أر وجهي بعد في مرآة أرخيمدس؟ ثم إنني لا أكاد أحسن من
وظائف اللغة سوى وظيفتين اثنتين : اللَّغْوية (Phatique) والمرجعية
(référentielle) . أما الشعرية (poétique) فبيني وبينها ما بين أوديب وأبي
القاسم الطنبوري.
أردت أن أتقصى أكثر فأخذت أقرب جريدة إلى يدي، وفتحتها على ركن
الأبراج. ثم ذهبت مباشرة إلى برج السرطان ، فأنا من مواليده ، ويهمني أن
أعرف ما إذا كان صاحب هذا البرج ذا ميول شعرية أم لا ، سواء بالفطرة أو
تبعا لما تقرره حركات الكواكب والنجوم. وداعا أيتها الأرض! بدأت بالكلمات ?
المفاتيح فإذا هي : الماء، والقمر، واللؤلؤ. ثم انتقلت إلى طبع صاحب هذا
البرج فعرفت أنه متقلب في كل شيء. له حدس قوي. لا يحب الظهور. نصف وقته فوق
اليابسة ونصفه الآخر فوق الماء . نصف عاقل ونصف مجنون . هالني ما قرأت .
فبعض هذه الطباع طباعي حقا، وهي طباع أي « بحار فوق اليابسة» بتعبير رفائيل
ألبرتي ، لا سيما حين يكون اليأس شاطئ نجاة. ولكن هذه ليست طباع الشاعر،
ولا هذا هو المكان الذي يفترض أن يكون فيه. مكان الشاعر وراء الموج، وفي
الأعماق . ثمة مدن غارقة . هراطقة . أسماك قرش. حوريات. قراصنة ، وأهوال .
أنا لست هكذا . أنا أتحرك دائما « بعكس الماء» . « لست شاعرا» إذن.
ليس هذا فقط، بل إن أغلب من قرأت عنهم من مشاهير هذا البرج ليسوا
شعراء . على سبيل المثال: يوليوس قيصر. رامبرانت. همنغواي . شاغال. جان
جاك روسو . سانت اكزوبيري. هنري الثامن . الحسن الثاني. جورج بومبيدو
...إلخ. كل هؤلاء متعطشون للسلطة، إن لم يكن بالفعل فبالقوة . أنا لا سلطة
لي ولو على نفسي . ما أتعسني ! كم حاولت أن أسيطر، بشتى الوسائل، على نفسي!
ولكن بلا جدوى . لم يبق غير الشعر. هل من وصفة سحرية ؟ كيف يصير الإنسان
شاعرا؟ وكم يلزمه من الوقت. خمسة أيام؟ العمر كله؟ أم أكثر ؟ هذا إذا كان
الإنسان ? مثلما زعم جان جاك روسو ? يولد وهو صفحة بيضاء. أنا أشك في هذا .
إنني - بحكم تجربتي في هذه الحياة، وفي أكثر من حياة سابقة ? أكاد أزعم، ،
أنا بدوري ، أن أي صفحة بيضاء رحم أو كالرحم . وأنها تتسع لأكثر من جنين ،
لتوأمين : سياميين ، وغير سياميين. لأسرة نووية ، لقبيلة. لشعب ، بل
وللبشرية قاطبة . إن الإنسان يأتي إلى هذه الدنيا وفي عنقه ما لا يحصى من
الأحلام المعلقة، والصبوات العالقة كالمذاري أو كالشصوص ، ناهيك عن فلتات
اللسان، والشهوات التي لا تنطفئ ولو بعد قرون وقرون. أنا بنفسي كم خالجني
الشعور كلما هدني التعب وجلست أنصت ، فوق أقرب صخرة على الشاطئ ، إلى جسدي
أنني نصت إلى محارة تكاد تشرق بريقها من كثرة ما تنوء به من أصوات: أنين
غرقى . صيحات باحثين عن الذهب . زفرات غواصين. قهقهات سكارى . قرقعات عظام.
سعال . نقيق . وشهيق ، أكثر من هذا، كم وجدت نفسي كلما تناولت بأناملي
أدنى ورقة وجها لوجه أمام أناس ليس لي بهم أدنى سابق معرفة، أو من الموتى.
وما يبعث على الحيرة أنه ما من واحد فيهم إلا وله حساب يريد أن بصفيه معي.
فيهم من يطالبني بدين قديم. وفيهم من يسألني عن الشعر: ماذا منح؟ وماذا
سلب؟ وفيهم من يشتمني، لا لشيء سوى لأنه يقيم بين جوانحي منذ ما قبل
التاريخ وما زلت إلى حد الآن لم أكتب عنه ولا عن حبيبته أي حرف. لعله لم
يقرأ بعد: « أخسر السماء وأربح الأرض». بل وفيهم حتى من يزعم أنه (هو) أنا
حين كنت هزاراً في أحد أقفاص هارون الرشيد. وأن اسمي الفني آنذاك كان أبو
نواس . هل هذا معقول؟ في نهاية الأمر، لم لا؟ ألم يقل سيبويه: « الاسم رجل
وفرس وحائط» ؟ لافض فوه! ولكن ، بجد : كم أنا ! كم اسم لي ! كم لسان!كم
حنجرة ! وكم فصيلة دم! أنا هاهنا لا أخبر، ولكن أتعجب. وظيفة إضافية إذن :
الوظيفة الانفعالية.
عجبا! هذه المرة لم يصعر صاحبي خده. بالعكس، انفرجت أساريره. وعقب في
حماس زائد: ألم اقل لك؟ الإنسان يولد وهو شاعر. جميع الناس شعراء بالفطرة،
بمن فيهم أنت. أمامك الحاسوب . ادخل إلى غوغل وأنت ترى بنفسك..
دخلت . ثم كتبت : محمد بنطلحة. وفي الحين ظهر أمامي : « فوائد
الاغتسال بماء المطر» خاب أملي. وخاب أكثر حين ظهر العنوان الموالي: « أنا
شاعر مجهول» . قلت: إذن يتعلق الأمر بشخص ميت. « خَلِيليَّ « ! « قفا نبك»
على « قبر الشاعر المجهول». هنالك على أكتاف القرين والمضاعف والشبيه
والمختلف، كم رأيتني فوق النعش ، وفي الوقت نفسه وراءه : بين المشيعين لم
أكن أحلم. فقط، هل من دليل آخر بعد هذا على قوة الحضور المتبادل بيننا (
نحن الأحياء) وبين الموتى؟ نحضر في أرواحهم. ويحضرون في أجسادنا . أيها
الشاعر ! مت أو لا تمت. ذلك هو القبر . أما الشاهدة فمشقوقة . فوقها بعر
الآرام. وكل ما يشف من بين شقوقها، بعد حدس وتخمين: ما أشقى أن يعيش المرء
سعيدا! وفي زاوية غير مرئية : أفضل طريقة للخلود أن تموت وأن لا يعلم بموتك
أحد. هل بان [نظام] المعنى؟
لهذا الغرض، أخذت من فوق الطاولة منديلا من ورق. وشرعت أرسم فوقه
مربعا سيميائيا. غير أنني خشيت أن أتناقض مع نفسي. فأنا ? بغض النظر عن
كوني شاعرا أو غير شاعر ? أوثر الصفوف الخلفية. لا أقول أبدا: أنا أو لا
أحد. أجد للصفة الغفل (anonymat) مزايا لا تحصى. وحيثما مررت أمر ولسان
حالي: حسبي أن أمر وأن لا ألفت انتباه أي أحد. (Pourvu que je passe
inapercu) . كل هذا أقبله . ولكن، ليس إلى درجة أن أقول عن نفسي إنني
مجهول، سوف يفندني الواقع. ثم إن هنالك وثيقة دامغة : سجلي العدلي، وفيه
شكاية ضد مجهول . هل هنالك ما هو أكثر؟
تاريخ الواقعة: منتصف التسعينات من القرن الماضي. مكانها: مراكش .
والتهم ثقيلة، اقلها: استعمال العنف ( ضد اللغة، طبعا) ، إحداث الضوضاء
بالليل ( ليت شعري ماذا يفعل المحيط الهادئ ليل نهار!) ، وعدم الامتثال (
لمن : للخليل بن أحمد الفراهيدي؟ أم للحجاج بن يوسف الثقفي ؟) . على أيِّ ،
لن ينفع الإنكار. فالأدلة كلها ضدي. والمسطرة أخذت مجراها. حضر القضاة
والمحامون والشهود. أنا نودي علي باسمي الحقيقي: محمد بنطلحة . قلت : حاضر.
ثم وقفت في قفص الاتهام وكأنني في منصة مثل هذه ( هل أحذف هاهنا أداة
التشبيه؟ أم وجه الشبه؟ أم أحذفهما معا؟ ولكن هذه ليست استعارة). هذه حقيقة
. وهذا ما كان . توالى كل شيء وفق مقتضيات القانون : الجلسات ، والدفوعات (
الشكلية والتي في الجوهر) . والمرافعات... إلخ ، ولكن في آخر جلسة ، في
رحاب محكمة الاستئناف ، وقبل النطق بالحكم، حدث انقلاب مفاجئ . ليس
لأن رئيس الجلسة استجاب لطلب الدفاع، وسمح لي ? بعد أن هدني الوقوف ? أن
أجلس في الصف الأمامي، ولكن لأن أحد أعضاء هذه الهيئة سحب من حقيبته وهو
يلقي مرافعته» غيمة أو حجر « ، وشرع يقرأ . دون توقف. ولوقت طويل . لا أحد
قاطعه، لا رئيس الجلسة ولا النيابة العامة. أنا اختلطت علي الأمور. ما عدت
أعرف ما إذا أنا كنت في محاكمة أم في أمسية شعرية، ولا ما إذا كانت هذه
الـ» أنا» المحفورة في النص والتي تتردد بصوت آخر غير صوتي في جنبات قاعة
الجلسات تعود علي أم على شخص ( أو لربما أشخاص) سواي . هل أعول على بنفنست؟

سيقول من غير شك : إن ضمير المتكلم يعني أيَّ شخص . أيْ حسب المناسبة.
ففي كل مرة، يكون المعنيُّ هو الشخص الذي يقول « أنا» . ليس بدون دلالة
إذن أن يتمحور كل شيء في الكلام حول هذا الضمير . بل إن جميع الضمائر
الأخرى تُعرَّف انطلاقاَ منه. قد يقتضي هذا، قبل كل شيء، معرفة العلاقة
والفرق بين اللغة والكلام، وبين الشعر والواقع. وقد يقتضي أيضا معرفة من
يتكلم : هيرموجين أم كراتيل؟ صحيح كل هذا. ولكن ما الفائدة؟ لقد صدر الحكم (
بالبراءة ؟!) ليس على أي شخص، أو على شخص مجهول . ولكن على شخص بعينه [ هو
أنا] يتوفر على سجل عدلي ، وله أوراق ثبوتية أخرى: بطاقة وطنية، جواز سفر،
رخصة سياقة ، بطاقة اعتماد بنكية ، شهادة حياة ... إلخ. كل هذه الوثائق
بيوميترية. تحمل أرقاما تسلسلية . مصادق عليها. محفوظة في قسم الاستعلامات .
وفي متناول سانت بوف، لانصون ، رودلر وسواهم. إنها وثائق وأرقام في غاية
الأهمية حتى بالنسبة لي. بها أعيش وليس بالاستعارات. إذن أعتمد على نفسي .
وأستغني عن الاستعارات . ماذا يستطيع الشعر؟
أقطع ذراعيَّ معا إن أنا عدت إلى أي استعارة. شرطي الوحيد أن أعرف
نفسي بنفسي : ماذا كنت من قبل؟ من أين جئت ؟ إلى أين أنا ذاهب؟ متى أموت ؟
بأي أرض؟ لماذا أرى نفسي في بعض الأحلام على هيئة بجعة، وفي بعضها الآخر
على هيئة دودة قز؟ أسئلة مثل هذه ما أبسطها! رغم ذلك، ما من جواب. أين
الحل؟ لا مناص. عند (أيّ) شاعر (ولو) مجهول .
قال صاحبي وهو يضغط على مخارج بعض الحروف: إذن عندك. ما بك؟ هو ذا
أنت. وأشار بسبابته إلى الصورة المنشورة في جرائد ذلك اليوم وتحتها اسم:
محمد بنطلحة. بعد لأي، وأنا أقضم أظافري قلت: ما زلت عند رأيي ليس هنالك
تطابق بين تلك الصورة وهذه التي أحمل فوق وجهي وتلك التي ما تزال تنعكس على
الواجهة الزجاجية للمقهى. ولكن هنالك قواسم مشتركة . هل نجرب المثلث
السيميائي هذه المرة؟ أم نلقي حجرا في الماء، وننتظر؟
من باب النزاهة أيضا أنني طالما وجدت في ما أكتبه، لا سيما في أوقات
الفراغ، عدة أشياء بعضها يتماهى، وبعضها الآخر يتوازى مع ما ينشره ذلك
الشاعر، على قلته. شككت، في أول الأمر، في سلة المهملات. صرت لا أُلقي فيها
بمسوداتي، مخافة أن يأتي بعدي من يقلبها على مخها، ثم يسبقني إلى نشر ما
فيها، حرفيا أو بتصرف.طبعا، استبعدت الحاسوب ، فأنا لست من الغباوة بحيث
أأتمن فأرة كمبيوتر على كنز ثمين لذلك انصرف ذهني إلى احتمالات أخرى.
أدرتها في رأسي . ثم قلت : لعله ذلك الطفل الذي كنته، والذي كان يحمل
إلى أن وصل (نا) إلى قسم الباكالوريا اسم : محمد الفشتالي. كبر بعيدا عني
وعن أرض الواقع، دون أن يفرط في ما عاشه معي من مباهج وكبوات، ودون أن
يتنازل ? في منفاه الرمزي فوق أرض الخيال المترامية الأطراف ? عن حقه
الطبيعي في التعبير عن أليغوريا الزائل المستعاد.
لعله أيضا شخص آخر، كلما رآني فوق عجلة جاء ووضع عصا فيها ، ولكن ما
هذا العجب ؟ يشبهني لأنه يحمل بصماتي. ويختلف، في الوقت نفسه، عني لأنني
كلما قلت شيئا قال عكسه. أقول:» المنطق يبحث عن المعنى. والنحو يبحث عن
اللفظ» فيقول: « أخطأتَ لأن الكلام والنطق والإفصاح والإعراب والإبانة
والحديث والإخبار والاستخبار والعرض والتمني والنهي والحض والدعاء والنداء
والطلب كلها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة». هكذا إذن ، في الرحى وفي
الفرن في وقت واحد ، للعلم ، أنا ولدت في درب الفرن في فاس .وأنا الآخر ،
أين ؟ في رحى الشمس ؟ ليس هذا فحسب، ولكن أيضا، كلما أخذتني عيني وأنا بين
رفوف مكتبتي الزرقاء استغل الفرصة، وأخذ يتفرج على شريط أحلامي. أنا أعيشها
بالأبيض والأسود. وهو يراها بالألوان، وبالبعد الثالث. ما هذه الورطة؟
ورطة أخرى ، حين امتدت يدي إلى فنجان القهوة سبقتني يد صاحبي. هاهنا
انتبهت إلى أن الكلام أخذنا، وأنه كان علي - من باب اللباقة، على الأقل -
أن أعرف من هو. سألته: ما اسمك، يا سيدي؟ فرد على الفور: محمد بنطلحة. قلت
له: إذن، أنا من أكون ؟ قال: لا أحد. وجر كرسيه إلى الخلف. ثم نهض. وقبل أن
أنبس بأي شيء كان قد أعاد الكرسي إلى مكانه. ثم أعطاني بظهره، وفي فمه : «
في الخمر معنى ليس في العنب».

> مداخلة ألقيت في ختام اليوم الدراسي الذي نظمته مجموعة البحث في السيميائيات
وتحليل الخطاب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ، عين الشق ، الدار البيضاء ،تحت
عنوان : سيميائيات الشعر ، قراءات في تجربة محمد بنطلحة الشعرية وذلك يوم
24/04/2012
11/5/2012



الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي ليوم الجمعة 11ماي2012
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
بِعَكْسِ عَجَلَةِ فِرْجِيلْ - محمد بنطلحة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تأويلية التقابل وتحليل الخطاب (محمد مساطة)
»  قراءة في مشروع محمد بازي
» الكاتب محمد بازي (سيرة مختصرة)
» ديوك الألم الكاتب محمد بازي
»  صفحة الماء محمد الكُمَيم أستاذ باحث من اليمن

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: محفل الدكتور محمد بازي :: صناعة التأويل التقابلي-
انتقل الى: