البحر وحده يستحق أن يكون جاري
لكِ الله يا منازل الدانية، لم تمُدِّي لي كفا ولو من تراب، فالتراب أصدق أحيانا من وجه الإنسان، أعرف لغته مهما شطت بي المسافات، خريف يريدني وأنا لا أريده ..امتداد رهيب وشاحب ..قاسٍ يُجرجر مناشيره في الجسد، يجرُّ من غمد الليل نصله ويقول : خذ ذي الطعنة مجانا فقد كُتبت عليك ..وكان الجبل كئيبا كعادته، يدير ذيله مثل ثعبان غادر..
يا أسفا على زمن نسافر فيه و لا يسافر فينا، سمكة حمراء زاهية تمص حلمات المحيط، وجاء الغم لوحا داميا على أكف الأمواج، بليلا طريا يُدير رحاه على رؤوس الرماد .
ستأخذ مكانك بجانبي حتما، فهذه المراكب الشيطانية صُنعت لنا، ألا ترى أنها هائمة مثل إبل تنتظرها الصحراء والليل؟ لا حاجة لك بالحقائب، فرأسك كاف لصروفها، شتى هي على الفتى، سهام ثكلى تغوص في الصدر وتخلص .
والماء الذي اعتدته، هنا في بُحيرة قرب وجهي، تبخر في تلك ليلة باردة ما فتئت أجتر رغوتها .
آه من حُجب تمنعني أن أرى ما أريد لها غايات، وفي نفسي أخرى، وتراخت سنابك الظلمة على ظهور الخيل، وجاء وحده ..رجع إليَّ من أرسلته فاتحا، على وجهه أخاديد الدموع وفي كفه سواد البارود ..
أيقظتني بعدها ويا ليتها ما فعلت، تلك الطافحة بعبق التراب، غازلت جرحا في امتداداته السفلى .. سحابة متنقلة دانٍ فوق الأرض هيْدبُها، أكاد أمسك ماءها وبَرَدها بالراح ...وكنت مثل الحبق يُحك فيُعطي العبق، أرخيت لها أجفان العين أمدا.
قالت: أرى شيخا يتوكأ عكازه ويسير في اتجاه شمس تغوص في المحيط، وهناك في الأخرى أراك تقرأ كتابا، بدون عنوان، عميقا كعادتك...
وسقيت الآخرين من كؤوسي وسقيتها، وقفت قربها أقرأ للمتنبي :
أ رَيْقُكِ أَمْ ماءُ الغمامة أم خَمْـــــــــــــرُ
بَرودٌ بِفِيَّ وهو في كبدي جَمْــــــر
أذا الغُصْن أم ذا الدِّعْص أم أنْت فِتْنة
و ذياَّ الذي قبَّلْته البَرْقُ أم ثَغْــــــــــر
ضوء برق يعبر الأفق، سريعا، ويرتد إلى غمده مثل سيف. صوت زخات المطر تتراقص فوق السقف، الوجه تتخطفه نار ما أشبهها بألم يُراجع صُحُفه في صدري .
وقفتُ أمامكِ فارسا يخامره الشك في فرسه، وكنتِ يا دانية السراب مثل الليل، بحثوا عن خريطة الشر في نِعالك ورحالك، وهي واد يجري في رأسِكِ وفِعالك.
وجوه عرفتُها وأخرى مثلت في الرؤِيا، أشباح تتجه بعيدا نحو البحر فأنا دوما هناك، وكلما وجدت طُحلبا رميت به إليكم، أغوص حيث تنتشلني القصيدة، كلما بدَّتها الرواحل تلاقت وتعالت فتألقت ..
ورأيتني أحمل معولا، وأهدم بيوتا، فالبحر وحده يستحق أن يكون جاري، وكم صرخت : لقد هدَّتني ذي البيد، جئت أعلِّم غرابا كيف يتخطَّف غّذاءه من موجة راكدة تتبعني، عندما أصبح البر بحرا فعلّقتني بأشواك النخلة قصيدتي..
ولو أن الأيام تمُدُّ لي راحتها لعدت للغزو الذي أعرفه، ويا ما قلت لشخص يسكنني : عُد من حيث أتيت، أترك الحصان وحيدا، فوطنك هو البحر، وطنك ما تريد لا ما يريده الآخرون..
وهاأنذا مثل النخلة تموت وهي واقفة، الصحراء تمتد فيَّ وتنأى بيَّ، سحاب قاتم وغيوم . يا ذي البلاد العراء، يا ذي الصخور الواجمات، ماذا هيَّأت للغريب ؟؟
أ لأنك دنيا مطلقة تتلوين حولي من ألم الحيض ؟ أ لك وجه آخر غير هذا به تُعرفين ؟
بحثت في رأسك عن أسراري، فاكتشفت أنك بلا قلب فولَّيْت.مداراتك رمتني لجيوبك في الغيب.لا يُنطِق صمتها إلا خنجر التوبات. عُذرا هذه الدانية غربتي فيكم!